ثقافة وفنون

«المنصة» .. صراع طبقات أم ندرة أطباق؟

«المنصة» .. صراع طبقات أم ندرة أطباق؟

مشعد من العمل.

«المنصة» .. صراع طبقات أم ندرة أطباق؟

بوستر الفيلم.

في مبنى شاهق يضم طوابق عديدة، لم يتم ذكر حتى عدد تلك الطوابق، وفي قلب كل طابق الذي هو عبارة عن غرفة، فتحة مربعة وهي المنصة، توضع عليها مائدة تحوي ما لذ وطاب من الأكل والحلويات مرتبة بشكل رائع، يتم إعدادها بعناية فائقة، تبدأ بالنزول من الطابق الأول وتجلس في طابق دقائق معدودة ليأكل الفرد حاجته التي تكفيه ليبقى على قيد الحياة، لكن هذا لم يحصل، فيبدأ السجناء في أكل أكبر قدر ممكن من الأكل، يفوق ما تتحمله معداتهم، إلى أن تصل الى الطوابق السفلى بمنظر مقزز.. بمجرد أن نتخيل هذا المشهد يتبادر إلى ذهننا سؤال بديهي، ماذا سنفعل لنبقى على قيد الحياة لو كنا مكان الأشخاص في الطوابق السفلى؟ حوار فلسفي عميق، يدور طيلة ساعة ونصف في فيلم الخيال العلمي والرعب والإثارة الذي أطلقته "نتفليكس" تحت عنوان "المنصة" The platform.
إن توقيت الفيلم جاء ليواكب المرحلة الحالية التي تعصف بالعالم نتيجة وباء كورونا المستجد، وما لحقه من تدهور اقتصادي دفع بعض أصحاب الأموال إلى التبضع بجشع حتى لا يصل بهم الأمر إلى الجوع.. فهل يحاكي بقصته المستقبل، وماذا لو وصلنا إلى ما وصل إليه بطل الفيلم حينما أصبح من دون أكل، ويصارع من أجل البقاء؟!
الإنسان يأكل أخيه الإنسان
إنه لأمر بديهي أن الأشخاص الذين لا يصلهم الطعام يبدأون في أكل بعضهم بعضا، ورغم أن الجميع يدرك أن الأدوار تتغير كل شهر، وأنه كان من الممكن أن يحافظوا على حياة الجميع طوال فترة السجن إذا التزموا بأكل حصتهم فقط، فإنهم يفضلون دائما أن يلتزموا بالمزايا التي حصلوا عليها من الدور الذي يعيشون فيه، ولو أن نزلاء المستوى الأول أو الأعلى اكتفوا بحصتهم لما جاع أولئك الذين في الأسفل. ومن يحاول من السجناء أن يحتفظ بشيء من الطعام للتخزين، فإنه يعاقب بأن غرفته فورا تسخن أو تبرد بشدة إلى درجة مميتة.
لم يقدم الفيلم فكرة الجوع بين الطبقات بل أضاء على الاختلاف ما بين طريقة تفكير من في الأعلى و من في الأسفل، فهؤلاء في الأعلى لا يشغلون بالهم بالطعام، ما يجعل تفكيرهم يبتعد إلى أمور أخرى، ما يسوق بعضهم إلى الانتحار، أما من في الأسفل فكل ما يفكرون فيه هو قوت يومهم، وهل سيكونون قادرين على الحصول على بعض الفتات ليسكتوا بهم بطونهم الجائعة أم لا.
الفقير يصبح غنيا
لم يكتف الفيلم بإبراز قضية الصراع الطبقي، بل تطرق إلى قضية الأغنياء الذين من الممكن أن يصبحوا فقراء، حيث يوجد قانون ينص على وجوب تغيير السجناء طوابقهم كل شهر. فمن كان سعيدا يوما ما في الطابق الثامن مثلا، فقد يشعر بالتعاسة في الطابق 133 في يوم آخر، لذلك طرح الفيلم فكرة واضحة مرادها أنه إذا ترك الأغنياء ما لا يحتاجون إليه إلى الفقراء أو الطبقة المتوسطة، فسيكون الطعام متوافرا للجميع بصورة كافية، ولقد تم إخفاء العدد الحقيقى لطوابق الحفرة، فلا أحد يعلم ما هو رقم الطابق الأخير، فى إشارة إلى انعدام قدرة من هم في الأعلى على معرفة إلى أي مدى قد يصل مستوى الفقر فى المجتمع، كذلك قدم الفيلم طرحا مميزا للعلاقات بين أفراد الطبقات الاجتماعية المختلفة من الطبقات العليا والسفلى وكذلك العلاقات الشخصية بين أفراد الطبقة الاجتماعية الواحدة، وكيف يمكن أن تتغير أو تنقلب مع اختلاف الظروف.
تصحيح الأوضاع
أما الأحداث الفعلية فتبدأ مع بطل الفيلم جروينج، يؤدي دوره إيفان ماساجوي، الذي تطوع لدخول السجن ليتخلص من عادة التدخين، وليقرأ كتابا، حيث إن كل شخص يسمح له بإدخال غرض معه، ولا يعرف جروينج ما الذي ينتظره في الداخل، دخل هذا السجن ساذجا، وجاهلا بما قد يفعله البشر ببعضهم حينما يدخلون في صراع البقاء الدامي، لا يعلم أن من هم في الأسفل لا يعبأون ألبتة بمن أسفل منهم، حينما تقع منصة الطعام تحت أيديهم، فيحاول إقناعهم بأن يتركوا لغيرهم القليل من الطعام بدون عبث، فيرفضون في حدة، وحينها يقوم زميل جروينج في الغرفة تريماجاسي، يؤدي دره زوريون إيجويليور، بالتبول عليهم، فيخبره جروينج بأن يتوقف، فربما تنعكس الأدوار ويصبح الذي في الأسفل في الأعلى لاحقا، فيخبره العجوز بثقة، بأنهم بالتأكيد كانوا سيتبولون عليهم أيضا.
في رأي العجوز أن هذا هو حال كل من لديه سلطة على الآخر، وهو المصير نفسه الذي سيسري على من لديه سلطة لو تبودلت الأدوار من قبل من كان يحكمه، ليس من باب الانتقام أو العدل، إنما هو شيء أشبه بالغريزة، التي تدفع كل ذي نفوذ، لأن يطأ بقدمه كل من هو أضعف منه.
أداء مميز
قدم جروينج أداء ممتازا، استطاع أن يجسد فيه التغير التدريجى للشخصية من مرحلة إلى أخرى والاستنزاف البطيء للمبادئ التى دخل بها الحفرة، مع اشتداد صعوبة المواقف، كذلك الممثل صاحب شخصية العجوز "تريماجاسي" الذي قدم تجسيدا ممتازا للشخصية بكاريزما عالية، سرق بها الاهتمام طوال فترة وجوده على الشاشة.
دون كيشوت في بداية الفيلم
في الدقائق الأولى من الفيلم يقدم الكاتب ديفيد ديسولا، الذي اشترك مع بيدرو ريفيرو في كتابة سيناريو الفيلم، كلمات الروائي والشاعر الإسباني ميجيل دي ثربانتس من روايته الأشهر "دون كيخوته" عن الفارس الذي يحارب طواحين الهواء، تبدو ذات صلة شديدة ببطل فيلم المنصة، ليس فقط لأن الرواية هي الشيء الوحيد الذي اختار البطل أن يحتفظ به في سجنه - آخرون احتفظوا بأسلحة وسكاكين - لكن لأن البطل يتحول شيئا فشيئا إلى دون كيخوته، رجل مثقف وحالم، مؤمن بالخير، يشاهد هلاوس بصرية تحت تأثير الجوع والتعب، ويدخل في مبارزات ليس لها نهاية، جروينج أراد أن يصبح بطلا أسطوريا كما قرأ في الروايات القديمة، ليغير العالم من حوله، لكنه فشل في ذلك، بل وارتكب عديدا من الأخطاء الفادحة أيضا.
إن فكرة الفيلم ليست جديدة بشكل كامل، فلقد تم تقديم فكرة مشابهة لها إلى حد كبير فى الفيلم القصير Next Floor للمخرج ديفيد فيلينوف، لكن فيلم "المنصة" استطاع استغلال الوقت الزائد وإضافة الكثير إلى فيلم فيلينوف من أفكار ورمزيات وقضايا مختلفة.
يذكر أن الفيلم تصدر قائمة الأعمال الأكثر مشاهدة عبر منصة "نتفليكس" في الولايات المتحدة وإسبانيا وعدد كبير من الدول التي تعمل فيها المنصة الرقمية، كما حصل على جوائز أفضل فيلم وأفضل إخراج وجائزة الجمهور في مهرجان سيتجس السينمائي.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون