ثقافة وفنون

المطبخ السعودي .. إرث وأصالة صمدت أمام قوة النسيان

المطبخ السعودي .. إرث وأصالة صمدت أمام قوة النسيان

توثيق وصفات الطهي السعودي عبر منتجات رقمية أو مطبوعة.

المطبخ السعودي .. إرث وأصالة صمدت أمام قوة النسيان

كتاب "الطبيخ" المؤلف عام 623هـ.

المطبخ السعودي .. إرث وأصالة صمدت أمام قوة النسيان

ميادة بدر رئيس هيئة فنون الطهي.

لطالما كان المطبخ أحد أشكال التعبير والتواصل بين الشعوب، فهو يعطي كثيرا من التفاصيل حول حياة ساكني البيت، بل إنه في بعض لغات العالم يعني العائلة، مثلما هو أيضا يعد نشاطا ثقافيا إبداعيا، تهب عليه رياح التغيير بين حين وآخر.
مضى حتى الآن أكثر من عشرة قرون على توثيق وصفات وأكلات المطبخ العربي، كمبادرات فردية تحسب لأصحابها، لكنها رغم ذلك وصفت بـ"الخجولة"، ولم تنل حقها الطبيعي من الصون والنشر، ما أدخل بعض وصفاتها طي النسيان، وفقد المطبخ بعضا من روائعه وإرثه.
المطبخ .. ثقافة عالمية
يقال، إن الرسام البلجيكي الشهير رينيه مجريت أمضى وقتا طويلا من حياته في المطبخ، يأكل ويرسم ويستقبل الضيوف، فضل أن يعمل في مطبخ شقته الصغيرة، على أن يتخذ مرسما أو استوديو رسم، وربما ذلك ما كان يفسر ظهور أشياء من مطبخه اليومي في رسوماته، مثل الجبن تحت قبة زجاجية في لوحته بعنوان "هذه قطعة من الجبن"، أو أرغفة الخبز الفرنسي التي كانت تطير مثل الطائرات في لوحته "الأسطورة الذهبية".
قصة مجريت وغيرها، توحي بأن المطبخ كان مصدر إلهام له ولعشرات الفنانين والأدباء، فكتب عنه قصائد وروايات وكتب لا تعد ولا تحصى، من أحدث وأشهر ما كتب عنه، المجموعة القصصية للروائية أمنية طلعت، من خلال مجموعتها "طبيخ الوحدة"، أحد أكثر الكتب مبيعا في 2014، وقالت، "إن المطبخ بالنسبة إليها كشف ومساحة للتطهر، حالة الحب والمتعة والبهجة والحميمية ترتبط باجتماعنا حول ما يخرج من المطبخ"، وتتجلى أهمية المطبخ في كتابها كعلاج للفقد والإحساس بالوحدة.
وفي مجال الأفلام والمسلسلات، للمطابخ والطهي تاريخ طويل في الدراما والكوميديا، والقضايا الجدلية والثقافية، لكنه رغم شهرته الثقافية في الآداب والدراما، شهد غيابا شبه تام في الأدب والتراث العربي، عزا الروائي المصري عزت القمحاوي ذلك إلى سبب ما، لخصه بقوله "غياب المطبخ في الكتابة العربية يعود إلى عدم احتفاء الثقافة العربية بالحواس، واعتبارها الطعام أمرا بديهيا والطبخ أمرا عاديا وغير مهم، ولم يشر في التراث العربي القديم للطبخ كسلوك إنساني".
المطبخ هو العائلة
وفي مكان ليس ببعيد عن إطار الفن والثقافة، يرمز المطبخ في الثقافة اليابانية إلى البيت بأسره؛ حيث يسمى "كامادو"، وهو فرن تقليدي يعمل على الخشب أو الفحم، ويقال، إنه قدم من كوريا إلى اليابان، لكن اليابانيين رفعوا من قيمته ليعني العائلة، حتى إنهم أطلقوا على تفكك الأسرة وصف تحطم الفرن أو الموقد.
وفي دلالة على حسن الوصف الياباني، بات المطبخ في السعودية خلال الأيام والأسابيع الماضية بيتا ومكانا عائليا بامتياز، ففي أروقته اجتمعت العائلة خلال أزمة كورونا للتنافس في تنفيذ أشهى الأطباق، في اهتمام منقطع النظير، برزت فيه المواهب، وأثبتت الأزمات - كما تنبأت من قبل الثقافة اليابانية - أن المطبخ هو العائلة.
أطباق سعودية خالدة
تتميز أكلات المطبخ السعودي بجمال المنظر ولذة الطعم، وتكتسب رونقا خاصا حينما تقدم في أوان شعبية تراثية، كما أنها تقترن بالكرم وحسن الضيافة العربية، واكتسبت شهرة على مستوى الوطن العربي والعالم، وهو ما تؤكده الطاهية ميادة بدر رئيس هيئة فنون الطهي، حينما قالت، "لدينا مأكولات وأطباق شهيرة من مختلف مناطق المملكة، ولدينا طهاة ماهرون حققوا نجاحات متميزة، وهذا كله يدعمنا في تحقيق أحد أهداف وزارة الثقافة المتمثل في إيصال ثقافة المطبخ السعودي إلى العالم".
ومن هذه الأكلات المتوارثة أبا عن جد، التي تحرص العائلات السعودية على تناولها خلال رمضان المبارك، أكلة الحنيني، وتصنع من التمر والطحين والزبدة، فيما اعتاد أهالي المنطقة الغربية على أكل الصيادية والمنتو واليغمش على موائدهم، ولا سيما في رمضان، دون أن ينسوا الفول والكبدة كإحدى الأكلات الشعبية الحجازية وقت الإفطار، التي عرفت هكذا من عقود.
وفي منطقة نجد، اشتهرت العصيدة، والمرقوق المكون من اللحم والخضراوات، والمفروك الذي يضاف إليه العسل والبصل، والمطازيز التي يعتمد تحضيرها على حبوب البر الأسمر، في حين يحرص أهالي القصيم على تناول "التاوة" على مائدة الفطور والسحور، وتتكون من دقيق القمح، دون أن نغفل معمول "الكليجا" المشهور في منطقة الخليج عن أهل القصيم.
ومن الوسط إلى الجنوب، حيث نجران، وفيها سيد السفرة الرمضانية "الرقش"، ويقسم إلى رقش باللحم والمرق ورقش بالحليب والسمن والعصيدة، التي تتنوع أيضا بحسب محبيها إلى عصيدة بالمرق وثانية بالتمر، كما يداوم الأهالي على طبخ "الحنيذ".
بدوره يسجل مطبخ المنطقة الشرقية تنوعا كبيرا، ففيه الرز الحساوي، الساقو، الخبيصة، البلاليط، الهريس، خبز الرقاق والمهلبية.
أما رمضان "الحائلي"، فيتميز بوجود أكلات الثريد، المثرود، المقشوش، الهريس، المليحية، الخميعة، الفتيتة، والمحموسة، ولكل أكلة مكوناتها الفريدة وطعمها اللذيذ.
الكبسة سعودية
في باكورة أعمالها، أطلقت هيئة فنون الطهي مسابقة مبادرة "إرث مطبخنا"، لتوثيق وصفات الطهي السعودي عبر منتجات رقمية أو مطبوعة، تسهم في تكوين قاعدة بيانات لوصفات طهي سعودية، وإثراء المحتوى الثقافي للمطبخ المحلي، وتخدم قطاع الطهي في المستقبل.
وتهدف المبادرة، التي انتهت من استقبال الوصفات، إلى توثيق وحفظ وصفات أهم الأطباق التقليدية في الثقافة السعودية، واكتشاف مواهب الطهاة المحليين، حيث ستتم طباعة الوصفات الفائزة في كتاب يضاف إلى مكتبة الطهي السعودي.
ومن شأن هذا التوثيق أن يحسم الجدل في بعض الأكلات السعودية، فثمة من يراها لا تنتسب في الأصل إلى المطبخ السعودي، مثل الكبسة، ونالت جدلا حول سعوديتها، إذ يرى فريق أنها إعداد سريع للرز واللحم، كان يعدها المسافرون توفيرا للوقت، وبدأ ذلك في بعض الأقطار العربية، ورغم قلة هذه الآراء إلا أن الجدل لا بد له أن يحسم وينتهي، إذ يرى لفيف من الطهاة والمهتمين بالتأريخ أن الكبسة السعودية لها نكهتها وطريقتها في الإعداد، ولو اختلف أحد المقادير لأطلق عليها اسم آخر، وقد أصبحت طبقا عالميا حينما يذكر فإن البنان تشير مباشرة إلى السعودية.
لا شك أن توثيق إرث المطبخ السعودي وأكلاته يحفظها من الاندثار، ويعيد إلى الأذهان أمهات الكتب في هذا المجال، مثل كتاب "الطبيخ وإصلاح الأغذية والمأكولات وطيبات الأطعمة المصنوعات مما استخرج من كتب الطب وألفاظ الطهاة وأهل اللب"، أحد أقدم كتب الطبخ العربية، إن لم يكن أقدمها، وقدر وقت كتابته في القرن العاشر الميلادي، عام 940 ميلادي لابن سيار الوراق، ويتضمن 600 وصفة، منها أطباق يفضلها بعض الخلفاء العباسيين كالمهدي والمتوكل والمأمون ابن الخليفة هارون الرشيد.
إلى جانبه أيضا كتاب "الطبيخ"، المؤلف عام 623 هجري، وهو في الأصل مخطوطة لمحمد بن حسن البغدادي، يحمل وصفات لأكلات كانت تحضر أيام الدولة العباسية، ولا يزال البعض يتداول وصفاته حتى هذه الأيام، ومنهم المهتم بالشأن الثقافي أحمد طابعجي، الذي قال، "إنه شعر بإحساس غريب وهو ويطبخ أكلتين كتبت مقاديرهما وطبخت قبل 800 عام".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون