في ظل العزلة .. الهوايات الثقافية ترتدي ثوبا جديدا
"للناس فيما يعشقون مذاهب".. ربما ينطبق هذا المثل الشهير على الهوايات الثقافية المميزة والفريدة، التي أزاحت جائحة كورونا العالمية النقاب عنها، بعد أن أتاحت الظروف الحالية فرصة للتأمل وصفاء الذهن، فكشفت لنا عن مواهب دفينة وهوايات طواها الزمن والانشغال في البحث عن لقمة العيش.
قراءة النقوش
لحظات الصفاء في العزلة التي فرضتها جائحة كورونا، دفعت أصحاب الهوايات إلى الانخراط أكثر في هواياتهم، والتأمل فيها، أو اكتشاف موهبتهم على سبيل الصدفة، ومن أمثلة ذلك، غيث الشايع المهندس الجيوفيزيائي، صاحب رواية "الباب المردوم"، الذي كان الحجر المنزلي فرصة له لمحاولة قراءة النقوش الإسلامية الأثرية على أسطح الصخور، التي صورها في رحلاته، ولا سيما تلك التي كتبت بخط عربي لا يوجد له مثيل في العالم، وكلها من عصر صدر الإسلام.
وقبل أن تكون قراءة النقوش هواية، فهي علم له أصول وقواعد، وهواية تفتح الذهن لحاجتها إلى التركيز، ولتعدد الاحتمالات وصعوبتها فإن القارئ يجد نفسه وسط أحجية، يجتهد في فك لغزها للكشف عن مكنوناتها، فمن خلالها يمكن فهم الأفكار وطبيعة الحياة في القرون القديمة، التي بدأت منذ قبل الميلاد، وتعد ذاكرة للحضارة البشرية.
وما يجعل من هذا الفن والعلم متعة التحدي الماثل في صعوبة تفسير النصوص، كون بعضها تعرض للتشويه بفعل الإنسان أو الطبيعة، أو بعض نصوصها غير مكتمل، ويشوبه بعض الأخطاء الإملائية واللغوية، وكذلك اتصال النص في كتلة واحدة، وسط غياب للمراجع ونقص للكوادر والخبرات.
الزخرفة الإسلامية
بعيدا عن الهوايات التقليدية، كالمطالعة والكتابة، ونظم الشعر على اتساع بحوره، ومصاحبة الريشة والألوان، برز فن الزخرفة الإسلامية، الذي لقي اهتماما كبيرا في الآونة الأخيرة، وأصبح الفنانون يشاركون لوحاتهم ورسوماتهم عبر منصات التواصل الاجتماعي.
ويستند هواة هذا الفن إلى عشرات الكتب، وكذلك اللوحات الفنية لكبار فناني العالم، وتؤرخ مجتمعة لفن بدأ في عهد الخلفاء الراشدين، نشأ بعيدا عن تصوير الأرواح أو الطبيعة.
وتجسد هواية رسم الزخارف الإسلامية أصالة وجمالا منقطعي النظير، فالزخارف عادة ما تشكل عناصر وصفات محددة، تشكل عملا إبداعيا متكاملا، وقد تدخل فيها زخارف كتابية مستمدة من الخط العربي، وهي إحدى أكثر مدارس الزخرفة الإسلامية استخداما واتباعا.
كما تعتمد الزخرفة على عنصر أساس هو التوازن، سواء في الألوان أو العناصر والوحدات الزخرفية، والتناسق بينها، والتناظر والتماثل، والتكرار والتبادل بين الوحدات الفنية بشكل عكسي.
وبالطريقة ذاتها التي تخاطب بها لوحات الزخرفة الإسلامية الآخرين، فإنها تخاطب أيضا صناعها، مخاطبة أعينهم وأحاسيسهم، فتمنحهم طاقة إيجابية.
هوايات نسائية
من الهوايات الدارجة أخيرا، تحديدا لدى السيدات، فن حياكة الملابس التراثية، التي تتنوع مسمياتها وفقا للمناطق والقبائل، ولها أساليب وطرق متباينة، وكان البرنامج الوطني للحرف والصناعات اليدوية "بارع" قد أسهم خلال الأسابيع الماضية في تقديم دورات عن بعد لتعليم السيدات هذه الحرف وأسسها على أيدي حرفيات سعوديات، استثمارا لوقتهن فيما هو نافع.
وعلى الخطى ذاتها، برزت أيضا هواية صناعة السدو، وهي حرفة وهواية قديمة، كانت منتشرة في البادية، لتوافر صوف الأغنام ووبر الإبل وشعر الماعز، ومنها تصنع بيوت الشعر.
بألوانه الزاهية المتنوعة وزخارفه الخلابة التي تحمل دلالات اجتماعية مختلفة، يصنع من السدو المساند والمفارش، والأكياس، مثل أكياس حفظ الأرز، وأكثر من يتقنها أهل منطقة الجوف، الذين وجدوا خلال هذه الأيام فرصة لممارسة هذه الهواية، ونقلها إلى الأجيال الناشئة.
شحن النفوس بالأمل
تشحن هواية الرسم نفوس أصحابها بالدفء والأمل والشغف، وهي إحدى أقدم الهوايات في العالم، وسطع بشكل خاص أحد مجالاته، رسم البورتريه، الذي يرمز لفن رسم الأشخاص مع إظهار المشاعر في ملامح الوجه وتعبيراته، ذلك من وجهة نظر الرسام، ما يتطلب دقة ومهارة عاليتين من مبدع الريشة، ووقتا لم يكن متوافرا قبل التزام المنزل والبقاء فيه بفعل جائحة كورونا.
ويتطلب البورتريه رسم ملامح الشخصية بنسب موزونة ومتناسقة، فيما تتنوع المواد المستخدمة في الرسم، مثل الرسم بأقلام الرصاص والفحم، أو الألوان المائية، أو حتى الرسم بالقهوة. وبادر رسامون باستثمار هذه الهواية باعتبارها مصدر رزق، واستخدام "تويتر" للترويج لرسوماتهم، ورسم البورتريه الواحد بمبلغ يبدأ من 40 ريالا.
على نحو آخر، تعد هواية جمع الصحف والمجلات القديمة حبا وغراما لكثيرين، تحديدا المجموعات النادرة من الصحف، التي تعد ثروة ثقافية وتاريخية، يعكف محبوها على إبرازها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال تصويرها والتذكير بما مضى.
ويحدد قيمة الصحيفة وأهميتها ارتباطها بالأحداث التاريخية، مثل الحروب والاغتيالات، أو وفاة الزعماء والمشاهير والشخصيات العامة، والزواجات الملكية، وزيارات الرؤساء، أو وقوع كوارث وزلازل وحرائق، كما تحدد أهميتها حالة الصحيفة وعمرها، الذي يتجاوز في بعض الأحيان مائة عام، مثل صحيفة "الأهرام المصرية"، التي بدأ إصدارها عام 1876، وأعيدت طباعة عددها الأول مرتين، الأولى بمناسبة مرور عشرة أعوام على إصدارها، والثانية في ذكرى مرور مائة عام على صدورها، في عام 1976، ويروي محبو اقتناء الصحف كيف تهافت الهواة وجامعو التراث على شراء هذه الأعداد، لأهميتها، خصوصا أنها طبعت بالمحتوى والشكل الأصلي أنفسهما، ولارتفاع قيمتها مستقبلا.
ومن المعروف في هذه الهواية، أن اقتناء العدد الأول من أي صحيفة أو مجلة يعد كنزا كبيرا، ويتنافس في ذلك الهواة، حتى تجاوزت مقتنيات هاو سعودي للأعداد الأولى نحو 200 إصدار، فيما حرص آخر على اقتناء الصحف المندثرة، التي توقفت خلال القرن الماضي، وأهمها صحيفة "أم القرى"، "صوت الحجاز"، "بريد الحجاز"، "القبلة"، "قريش" و"القصيم".
ويحبذ الهواة اقتناء الصحف التي كانت تفرد "المانشيت" أو العنوان الرئيس للصحيفة بأعمدته الثمانية لخبر رئيس واحد، ومن أهم الأخبار التي يبحث عنها الهواة على صفحات الصحف الأولى وفيات الزعماء والمشاهير، مثل وفاة المؤسس الملك عبدالعزيز وأبنائه الملوك من بعده، والجنازات الجماهيرية التي أقيمت للرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر، والفنانة أم كلثوم والعندليب عبدالحليم حافظ، واندلاع الحروب في المنطقة العربية مثل حروب فلسطين، والغزو العراقي للكويت، والأحداث الإرهابية الكبرى مثل اقتحام جهيمان وجماعته الحرم المكي قبل أكثر من 40 عاما.