كورونا ومتطلبات مختلفة لإدارة الزمن

المكان والزمان عاملان رئيسان في حياة الإنسان. وسائل النقل برا وبحرا وجوا سهلت التجوال بين مختلف بقاع الأرض، وفعلت النشاطات حول العالم في شتى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، وغير ذلك. أماكن التجوال بقيت عبر الزمن محدودة بأبعاد كرتنا الأرضية الصغيرة، بل الضئيلة قياسا إلى الكون العجيب. فقد أراد الله تعالى لهذه الأرض أن تكون موطنا للإنسان وحضاراته العديدة التي قامت وبادت وتجددت، سواء في هذا المكان من الأرض أو ذاك. محدودية المكان بالنسبة للإنسان تنطبق على الزمان في جانب، لكنها لا تنطبق عليه في جانب آخر.
الزمان محدود في حياة كل إنسان محدود في أعوام عمره، ومحدود في ساعات يومه، ومحدود أيضا في ساعات عمله، ونومه، وفراغه. لكن هذا الزمان غير محدود في تجدده، وتجدد أجيال البشر مع مروره. ولعل بين أهم ما ميز الله به الإنسان عن سائر مخلوقاته، ميزة قدرة هذا الإنسان على نشر المعرفة على معاصريه بين مكان وآخر من ناحية، ونشرها زمنيا عبر الأجيال من ناحية أخرى. فقد انتشرت وتراكمت بذلك المعارف والمنجزات التي تستند إليها، ليستفيد كل جيل مما توصل إليه سابقه، ويبني فوق ذلك ما يستطيع إنجازه وتقديمه. وهكذا فإن الزمان، على مستوى الإنسان الفرد محدود لأنه يمثل حياته وعمله ومنجزاته؛ لكنه غير محدود في فرص تجدد الأجيال وتراكم معطياتهم.
انطلاقا من محدودية الزمن على مستوى الفرد برزت أفكار ما يعرف بإدارة الزمن Time Management. وتركزت هذه الأفكار على العمل على تحقيق الأهداف المنشودة، على المستوى المهني، والمستويين الاجتماعي والإنساني أيضا، عبر أداء النشاطات المطلوبة لتحقيق هذه الأهداف، بكفاءة وفاعلية، ضمن زمن محدد، ليس فيه وقت ضائع، وليس فيه وقت مضغوط يرهق العاملين ويجعل النشاطات عبئا فظا. وفي خدمة أفكار إدارة الزمن ظهرت أساليب تعززها، وتقنيات تعين على تحقيقها. ولعل بين أهم مثل هذه الأساليب ما يعرف بجدول أيزنهاور Eisenhower Matrix الذي يساعد على تحديد أولويات النشاطات المطلوبة وجدولتها؛ كما أن بين أهم التقنيات بالطبع التقنية الرقمية التي سهلت أداء الأعمال وارتقت بكفاءتها وعززت فاعليتها.
يقسم جدول أيزنهاور نشاطات العمل إلى أربعة أقسام رئيسة. أول هذه الأقسام هو ذاك الذي تتصف النشاطات فيه بأنها مهمة وعاجلة؛ أي لا بد من الاستجابة المباشرة لها ومتابعة ذلك من أعلى مستويات المسؤولية عنها. أما القسم الثاني فتتصف نشاطاته بأنها مهمة لكنها ليست عاجلة أي يمكن جدولتها للأداء فيما بعد. ثم يأتي القسم الثالث ليتضمن نشاطات عاجلة لكنها ليست مهمة، أي يمكن إحالتها إلى آخرين للتنفيذ. ويبرز أخيرا القسم الرابع ليشمل نشاطات ليست مهمة وليست عاجلة؛ أي يمكن تأجيلها إلى أجل غير محدد. وقد دعي جدول هذه المهمات بجدول أيزنهاور نسبة إلى مستخدمها، قائد قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، الذي أصبح فيما بعد رئيسا للولايات المتحدة خلال الفترة 1952-1960.
في زمن الكورونا الذي نعيشه، أصبح على الجميع، وفي كل أنحاء العالم المكوث في منازلهم من أجل منع انتقال العدوى، ومحاصرة الوباء، ومعالجة المصابين. خارج نطاق المنازل برزت نشاطات مهمة وعاجلة لا بد من القيام بها من قبل القائمين عليها، مثل: الأمن، والرعاية الصحية، والتموين الغذائي، وغير ذلك. وداخل نطاق المنازل برزت النشاطات المهنية والاجتماعية التي يمكن تنفيذها مع جهات خارجية عبر التقنية الرقمية التي حمت كثيرا من الأعمال ومكنتها من الاستمرار، مثل التعليم والنشاطات المعلوماتية والخدمات الأساسية الأخرى. وبقي لسكان المنازل بعد ذلك وقت وافر متاح لم يعهدوه من قبل. كان هذا الوقت، قبل العزل الذي سببته الكورونا يمضي في نشاطات اجتماعية وشخصية وترفيهية، فضلا عن أعمال مهنية توقفت قسريا تحت ضغط مخاطر الوباء.
كانت إدارة الزمن قبل كورونا تحرص على كفاءة أداء الأعمال وفاعليتها، في إطار استخدام الزمن على أفضل وجه ممكن، وبأعلى جدوى ممكنة، بما يؤدي إلى توفير الوقت يمكن استغلاله في نشاطات أخرى مختلفة. في فترة هجوم الكورونا بات الزمان في المنازل متوافرا بشكل غير مسبوق؛ وبرزت بذلك الحاجة إلى إدارته الإدارة الحسنة للاستفادة منه على أفضل وجه ممكن. ولعل من المفيد، ونحن في المنازل أمام هذا الزمن المتاح أن نقوم بمراجعة نشاطات كانت أمامنا، لكنها في تقسيمات جدول أيزنهاور لم تكن تبدو عاجلة وربما لم تكن تبدو مهمة مقارنة بنشاطات أخرى كانت تبدو ملحة. مثل هذه النشاطات حان الآن وقت العودة إليها، والنظر فيها، والاهتمام بها.
وإذا نظرنا إضافة إلى ما سبق إلى النشاطات التي يجب أن نأخذها في الحسبان للاستفادة من الزمن المتاح فلعلنا نجدها في قسمين رئيسين: قسم يرتبط بالعلاقات الأسرية والتقارب الإنساني بين أفراد الأسرة الواحدة وقسم آخر يتعلق بالنظر إلى آفاق المستقبل، أي إلى ما بعد كورونا من أجل تعامل أفضل مع معطيات العصر ومتطلباته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي