الإحصاء في مواجهة كورونا

 حتى اليوم يبحث العالم عن علاج ناجع لفيروس كورونا، ولا يوجد في الأفق علاج قريب. لهذا، فإن أفضل علاج له حتى الآن القبول بأقل الخسائر، سواء في الأرواح أو الاقتصاد. ومفهوم أقل الخسائر في مواجهة المرض يعني الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، وتقليل فرص العدوى بالمرض، لكن إلى متى؟ هنا يأتي أكثر المفاهيم استخداما في الإعلام، وهو مفهوم ذروة تفشي الفيروس، لكن المقلق في التصريحات أن هذا المفهوم غير مستقر، فتجد البعض يقول: إن الأسبوع المقبل هو الأسوأ "كعبارة بديلة عن الذروة"، والبعض يقول الأصعب لم يحن بعد، والبعض يقول نحن نمر الآن بأعلى ذروة، والبعض يقول الأسوأ قد مضى. هكذا تأتي التصريحات من كل بقاع الدنيا، وهي مصحوبة بأرقام المصابين والموتى، والتعافي. في ووهان الصينية التي أنهت الحجر الصحي قبل أيام، وصل فيها المرض إلى أكثر من 81 ألفا، وعدد سكانها 11 مليونا، بينما في إيطاليا تجاوز العدد 130 ألفا، وفي الولايات المتحدة 340 ألفا، وبلغ في نيويورك وحدها 140 ألفا، بينما نجد دولا مختلفة مثل كوريا الجنوبية التي أعلنت عشرة آلاف إصابة فقط، وماليزيا أربعة آلاف، بينما نحن نعلن ثلاثة آلاف. ومع الاختلافات في هذه الأعداد، تظهر الاختلافات في التقديرات عن ذروة التفشي، وهنا يظهر علم الإحصاء كأهم أداة بيد البشر اليوم لمحاربة هذا المرض.

ذروة التفشي هي المنعطف الذي تتشدد قبله الإجراءات حتى تصل إلى الحجر الكامل، ثم عندما يتخطى البشر هذه الذروة، تبدأ الإجراءات بالتراجع، لكن من الواضح أن الخطأ في التقديرات يعني خطأ فادحا في الأرواح، وسيدفع الناس والاقتصاد ثمنا باهظا في مواجهة الأزمة، فالمبالغة في تقدير الذروة يعني إجراءات أكثر وتحرزا أكبر، وهذا له ثمن باهظ بينما قد يكون الأمر أقل من ذلك بكثير. والتقليل من التقديرات يعني تفشي المرض بصورة كبيرة يصعب معها تلافي الأمر، وقد يتجاوز المرض حدود السيطرة وتعج المستشفيات بالمرضي وتزيد الأحزان مع الموت، إذ الدقة الحسابية في الإحصاء والتقديرات الصحيحة هي الفرق بين الأمرين، وهنا يظهر أن علم الإحصاء هو الذي نواجه به كورونا اليوم.
قد يبدو علم الإحصاء كأنه لا يقدم دليلا منطقيا، فكيف يمكن القول: إن عدد الإصابات قد يصل إلى عشرة آلاف إصابة من مجرد معرفة عدد الحالات التي تكتشف يوميا. بمعنى أبسط، كيف يمكننا أن نعرف المستقبل لمجرد أننا عرفنا عدد هذا اليوم؟ المسألة بسيطة، الإحصاء علم يدرس الأرقام فقط، ومن خلال قراءة تكرار الأرقام نعرف أن هذا الشكل الذي تأخذه لا يمكن أن يحصل مصادفة، لكن هذا ليس بلا مخاطرة. بمعنى، ماذا لو كانت الأرقام تشير إلى شيء ما، ثم كانت مصادفة، المسألة تأخذنا إلى أعقد فروع علم الإحصاء، وهو الاحتمالات. لتوضيح الأمر، فإن الأرقام التي نستخلصها في علم الإحصاء ترتبط بالعينات التي نجمعها. فمثلا، في حالة كورونا، فإن العينة هي عدد الناس الذين يتم فحصهم ويظهر من بينهم عدد المصابين، فإذا قلنا: إن عينة من عشرة آلاف شخص يتم فحصهم يوميا، ومن بينهم 200 شخص مصاب، فهذا يعني أننا نستطيع معرفة شكل المجتمع الذي نعيش فيه وكم عدد المصابين المتوقع مستقبلا، وذلك من خلال استخدام معادلات الإحصاء. لكن هذا كما قلت احتمالي، بمعنى أننا قد نكون على خطأ ولو بقدر يسير، هنا يأتي علم الإحصاء بفكرة احتمالات الخطأ في القرار.
في الإحصاء يظهر أي مجتمع على شكل الجرس المقلوب الذي نشاهده اليوم كلما عرضت إحصاءات المرض، وكل مجتمع له الشكل نفسه، لكن باختلاف بسيط حول علو وسطه، بمعنى أن مجتمعا من 100 مصاب يوميا، يأخذ شكل الجرس المقلوب نفسه، لكن ليس بحدة المجتمع الذي فيه 500 إصابة نفسه. هنا يظهر علم الإحصاء وعبقريته، فمن خلال العينات قد نعرف أننا ضمن مجتمع عدد الإصابات فيه 100 يوميا، لكن يجب أن نأخذ هذا القرار بثقة قدرها 99 في المائة، ويبقى احتمال خطأ مقداره 1 في المائة، "أي أننا أخطأنا في القرار ونحن فعليا ضمن مجتمع أقل من هذا أو مجتمع أكثر من هذا"، والسؤال الذي يطرح دائما، ماذا لو كنا على خطأ؟ إذا كان القرار خاطئا فإننا أمام احتمالين. الأول أننا قد نكون أقل بينما نحن نستعد لما هو أسوأ، وهذا الخطأ له تكلفة اقتصادية فقط، "ويمكن تحملها"، لكن الاحتمال الثاني إذا كنا على خطأ وكنا فعليا في مجتمع ذي إصابات أكبر، فإننا قد نواجه مشكلة صحية أكبر مما توقعنا، "هذا يمكن قبوله أيضا لأمرين معا، الأول أننا وضعنا احتمال الخطأ عند أقل حد ممكن، والثاني أننا نعرف المجتمع الأكبر إصابة والقريب منا وقد نستعد لذلك أيضا، فالفرق بين المجتمعين لن يكون كبيرا"، فإذا كنا نستخدم الإحصاء بطريقة صحيحة فيجب أن تكون الفروق بين المجتمعين المتقاربين متقاربة أيضا، ذلك أن الاستسلام للخوف بشكل ما يجعلنا نبالغ في الخطأ حتى نتجنب الأسوأ، ويتسبب في قرار خطأ وفي هدر موارد ضخمة جدا وتوقف عجلة الحياة فترة طويلة ونحن لسنا بحاجة إلى ذلك. الأمر في مختصره أن علم الإحصاء سلاحنا الصحيح أمام كورونا، ويجب أن نستخدمه بحكمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي