فيروس كورونا والبعد الإنساني
وأنا أحزم أمتعتي لمغادرة مكتبي في الجامعة إذا برسالة مطولة تظهر على شاشة الحاسوب. أجنيتا مارل رئيسة الجامعة السويدية تخاطب الهيئة التدريسية والموظفين بنبرة حزينة بعد قرار لها بتطبيق الخطة الموضوعة للتدريس عن بعد مع تعليمات تحث الأساتذة على عدم الوجود في الحرم الجامعي قدر الإمكان.
بدأت قراءة الرسالة بسرعة لأول وهلة؛ نتلقى كثيرا من رسائل مثل هذه ونحن نمر في أوقات عصيبة. بيد أنني اضطررت إلى التأني في القراءة عند ملاحظاتي ما يشير فيها كأنها خطبة وداع.
الرسالة هذه كانت تختلف كثيرا حيث تخللتها مفردات وعبارات تشير إلى بعد إنساني ما أحوجنا إليه والخوف يتملكنا من المقبل من الأيام.
ذكرتنا مارل أن الجائحة أضحت تضربنا بقوة إلى درجة "أن كثيرين منا اليوم لا بد أن طرق سمعه أن أحدا من معارفه قد وقع ضحية لها. "وأردفت قائلة إن هذا وحده يحتم علينا أن يهتم الواحد بالآخر ويحترم بعضنا بعضا ويكرم الواحد الآخر".
لم تكتف بهذا، بل ذكرت حين مغادرة منتسبي الجامعة مكاتبهم للعمل من بيوتهم، أن الظروف القاسية هذه تتطلب الالتفاف ليس فقط حول أنفسنا بل حول بعضنا بعضا، وأن نجعل الآخرين يحسون بدفء وحمية ما يربطنا بهم.
قد آليت على نفسي أن أنقل لقرائي ما قد لا تقع عليه أعينهم من قصص وتقارير وأخبار بشأن الجائحة التي يبدو حتى كتابة هذه السطور أن لا طاقة لنا نحن البشر على احتوائها.
ورأيت في البعد الإنساني لرسالة رئيسة جامعتنا وهي تودعنا ونحن نغادر مكاتبنا ما يستحق الكتابة عنه. نتحدث عن الجائحة وقبل الجائحة وما بعد الجائحة، بيد أننا من النادر أن نتطرق إلى ما تتركه فينا من أثر ونحن نعاني ضرباتها المؤلمة.
والسؤال الذي يؤرقني ولم ألق وربما لن ألقى جوابا عنه يدور حول إن كانت الجائحة قد غيرتنا كبشر، أو أننا لم ولن نتغير؟.
هناك شبه إجماع أن ما بعد الجائحة لن يكون مثل ما قبلها، أظن هذا صحيحا بقدر تعلق الأمر بالاقتصاد وقطاعات حيوية مثل التعليم والصحة والتشغيل.
هل ستغير الجائحة سلوكنا وممارساتنا من حيث البعد الإنساني الذي يربطنا ببعضنا؟، هذا لعمري أمر من الصعوبة بمكان التنبؤ به.
نحن البشر عموما نحب فرديتنا ونغالي بسمو قوميتنا وميولنا ولا نرغب في مشاركة الآخر أموالنا، أن نمنح الآخرين ضمن مجتمعنا حصة فيما نملكه من مال ونغمرهم بحبنا واهتمامنا، هذا لعمري أيضا أمر قد لا نفلح فيه.
وهذا الواقع الاجتماعي الذي نعيشه ويئن من أنانيتنا وحبنا لأنفسنا، جعلني أرى في رسالة رئيسة جامعتنا كأنها خطبة محبة في مجتمع يرى في الانزواء والانعزال والانفراد جزءا من الأخلاق العامة والسلوك السليم.
الجائحة لم تتمكن من غلق السويد وإيقاف الحياة فيها حتى الآن، كما هو الحال في دول غربية عديدة. وإن تمكنت، هناك نظام الحماية الاجتماعية الذي لن يسمح بظهور طبقة اجتماعية ضعيفة ومستضعفة تفقد لقمة معيشتها اليومية.
ما يحتاج إليه مجتمع متمدن مثل السويد في الوقت الراهن هو بالضبط ما دعت إليه رئيسة الجامعة.
وهذا يعاكس واقع مجتمعات أخرى حيث تتوافر فيها العلاقات الاجتماعية الحميمة حيث تصبح أكثر غزارة في الأزمنة الصعبة مثل هذه، إلا أنها تفتقر إلى الوسائل المادية التي تمكنها من توفير لقمة العيش لأعداد غفيرة من سكانها.
فقط تصور كيف يعيش عشرات وعشرات الملايين من الباكستانيين الذين يعتمدون على ما يكسبونه في اليوم للحصول على خبز اليوم ذاته؟ باكستان ليست الوحيدة. هناك عشرات وعشرات الدول لا تتوافر فيها نظم للضمان الاجتماعي تتكفل بمعيشة الأفراد في حال فقدان مورد الرزق.
الباكستانيون طرقوا باب البعد الإنساني، لكن ليس من أجل إظهار الاحترام والمودة صوب بعضهم بعضا، لأن هذه تحصيل حاصل في ثقافتهم. استندوا إلى ركن من أهم أركان دينهم وهو الزكاة، لمساعدة المستضعفين الذين فقدوا مورد الرزق الذي يمكنهم من الوقوف على أقدامهم. باكستان مقفلة خوفا من تفشي الجائحة.
مشاهد تثلج الصدور تلك التي رأيتها وأغنياء وأثرياء القوم يتبارون في شراء سلال الأغذية وتكديسها في ساحات عامة وأمام المخازن كي يستفيد منها الذين فقدوا مورد رزقهم تحت طائلة الجائحة.
وبعد قراءتي تقريرا في الصفحة الرئيسة لهيئة الإذاعة البريطانية حول مفعول مفهوم الزكاة الذي يطهر النفس وكيف أن كثيرين من الناس كان سيصيبها الجوع في باكستان لولاه، قلت في نفسي هناك أكثر من طريق للوصول إلى البعد الإنساني، وإن أخفق فيه البعض، كيف يخفق فيه من يرى أنه ركن من شريعة نزلت من السماء؟