ثقافة وفنون

الأوبئة مؤرخ بلا ذاكرة .. من سنة الرحمة والجدري إلى كورونا

الأوبئة مؤرخ بلا ذاكرة .. من سنة الرحمة والجدري إلى كورونا

الأوبئة مؤرخ بلا ذاكرة .. من سنة الرحمة والجدري إلى كورونا

الأوبئة مؤرخ بلا ذاكرة .. من سنة الرحمة والجدري إلى كورونا

قصر ثليم وقف الإمام عبدالرحمن الفيصل.

درجت العادة على أن يطلق المؤرخون اسم الوباء أو الجائحة على العام الذي يحدث فيه، كمصدر للتأريخ، مثلما حدث في "سنة الرحمة"، و"سنة الجدري"، ومثلها للحصبة و"عام موت الشيوخ" وغيره. وفي هذا الإطار، تكشف الكتب والمصادر التاريخية مجموعة من الأوبئة التي طالت أبناء شبه الجزيرة العربية طوال العقود الماضية، وتمكنوا رغم شح الإمكانات والأجهزة الحديثة من التغلب عليها، بدءا من موجات الطاعون المتقطعة، مرورا بالحمى الإسبانية، والجدري، والحصبة، وصولا إلى كورونا، الجائحة التي تجتاح العالم هذا العام.
الحمى الإسبانية
تروي الكتب التاريخية أن أربعينيات القرن الماضي شهدت تفشي الحمى الإسبانية في دول العالم، ومنها دول الخليج العربي، ذلك في عام 1918، بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وقتلت من الإسبان نحو ثمانية ملايين نسمة، رغم أن المصدر الأول لها - وفقا لمؤرخين - ليس إسبانيا، إلا أن الإسبان كانوا أكثر من تناول ملف الحمى إعلاميا، ولعل من المفارقات أنهم أطلقوا عليها "الإنفلونزا الفرنسية".
ويورد كتاب "خزانة التواريخ النجدية" تفاصيل من حياة البادية والحاضرة أثناء فترة المرض طيلة ثلاثة أشهر، حيث انتقصت الجزيرة بنفوس عديدة، ولشدة هول هذا الوباء أطلق الأجداد على هذه السنة التي انتشر فيها المرض سنة "الرحمة"، وسنة "الصخونة"، وقد فسر بعض الباحثين سبب هذه التسمية بكثرة الترحم على الموتى، ولأن هذا الوباء كان يصاحبه ارتفاع كبير في درجة حرارة المريض.
ومن مشاهير من ماتوا في هذا الوباء الأمير تركي بن عبدالعزيز الابن البكر للملك المؤسس، ففي كتاب "أطباء من أجل المملكة"، من تأليف بول أرميردينج، الصادر عن دارة الملك عبدالعزيز، الذي وفرته الدارة إلكترونيا مع مجموعة كتب تاريخية عبر خدمة الوصول الحر، يروي أنه "في شتاء عام 1919 انتشر وباء الإنفلونزا في أنحاء العالم، ولم تعق سعة امتداد الصحراء العربية الوباء من الوصول إلى الرياض، فعندما وصل الدكتور بول هارسون إلى العاصمة كان سلطان نجد حينها فقد ابنه البكر تركي وزوجته جوهرة بنت مساعد، بسبب الإنفلونزا"، مضيفا أنه "رغم انشغال الملك عبدالعزيز بحروب استعادة ملك أجداده وإخماد الفتن في ذلك الوقت، إلا أنه كان حريصا على الاهتمام بصحة مواطنيه".
ويصف أرميردينج استقبال الملك عبدالعزيز للطبيب بول، حيث قال له "إنه طلب قدومه ليس للاعتناء بصحته أو صحة عائلته، لكن السبب احتياج شعبه، وأنه قد خصص منزلا قريبا ليكون مستشفى، وكان يريد أن تتم معالجة شعبه دون تكلفة مالية عليهم".
نواة تأسيس "الصحة"
ولم تكن الحمى الإسبانية الجائحة الأولى التي شهدتها الجزيرة العربية، فقد شهدت موجات عدة من الطاعون، منها ما كان على زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال عنه في حديث نبوي "إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها"، كما سجلت أعواما تفشى فيها الجدري والحصبة مثل عام الفيل.
أما فيما يتعلق بمكافحة الحمى الإسبانية، أو الوافدة الأسبولية، فقد كان أهل الجزيرة العربية أكثر تنبها من غيرهم، إذ كانوا يعزلون المريض في بيوت تقع على أطراف البلدة أو خارج أسوارها، كي لا يختلط بالأصحاء، وتفرق الناس إثرها، حتى هرب بعضهم للعيش في الجبال.
وكان لهذه الإجراءات دور بارز في الحفاظ على حياتهم، إذ تفيد الإحصاءات بأن الوباء أصاب 500 مليون إنسان، وأدى إلى وفاة ما بين 50 إلى مائة مليون إنسان، أي ما يعادل 3 إلى 5 في المائة من عدد سكان العالم وقتها، فيما تفيد الدراسات المعاصرة أن تلك الحمى تصنف بما يسمى حاليا "إنفلونزا الخنازير".
وكانت هذه الجائحة التي وقعت قبل 102 عام نقطة انطلاق لمستشفى، عقبها بسبعة أعوام أنشئت مصلحة الصحة العامة، التي تحولت إلى وزارة الصحة قبيل وفاة الملك عبدالعزيز بثلاثة أعوام.
تلا ذلك القرار، إعلان مصلحة الصحة تأسيس "دار الجراثيم" في الطائف أو جدة لمهمة أساسية، هي الاستحصال على لقاحات وأمصال ضد الأوبئة والأمراض السارية، وفقا لما نشرته جريدة أم القرى في 21 يناير 1927، فيما شهدت الأشهر الأولى من 1929 تأسيس فرع ثان من دار الجراثيم، مقره مكة المكرمة لمكافحة المرض وحماية الحجاج والمعتمرين.
سنة الجدري
ومن الأعوام التي لا تزال عالقة في أذهان السعوديين عام الجدري، سنة 1939، وفيها توفي كثير من الناس، ومنهم من فقده بصره، حيث لا يزال كبار السن يذكرون هذا العام جيدا، وآثاره باقية في وجوههم، وتوفي إثره علماء بارزون.
ولمكافحة هذا الوباء، تروي المصادر التاريخية أن الملك عبدالعزيز استقدم الأطباء حرصا على سلامة المواطنين، ووجه بتأمين التطعيمات ضده، وفي الوقت الذي كان فيه السكان ينزحون إلى العاصمة لتلقي العلاج، وجه الملك المؤسس بتخصيص قصر ثليم "وقف والده الإمام عبدالرحمن الفيصل" لاستقبال الأهالي وإيوائهم، ليكون بمنزلة حجر صحي.
وسبق هذه الأوبئة، في عام 1904 "1322" سنة هيف الأول، ووافق معركتي البكيرية والشنانة التي حدثت لتأسيس المملكة، وهو داء الصفراء، وأطلق عليها أيضا "سنة موت الشيوخ".
تلتها بأعوام "سنة الحصبة"، التي صادفت عام 1912، وهي السنة الشهيرة التي أصيب فيها الأطفال بمرض الحصبة، وانتشر بينهم في تلك الفترة، حيث لم تكن التطعيمات موجودة بعد، وقتل آلاف من أهل نجد، وفي عام 1941 "1360" انتشر ما يسمى "السعال الديكي"، وعرف بسنة "الشهاقة"، لأن الأطفال أصيبوا فيها بحالة من السعال المصحوب بشهيق وضيق في التنفس، إلا أن المؤرخين لم يذكروا تسمية محددة لهذا المرض، سوى أن أهل الجزيرة العربية تمكنوا رغم شح الإمكانات من التغلب عليه. فهل يؤرخ سجل التاريخ للعام 2020 بـ"سنة كورونا".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون