ثقافة وفنون

«كوفيد - 19» .. إعادة ضبط إيقاع الحياة

«كوفيد - 19» .. إعادة ضبط إيقاع الحياة

الرغبة في العيش غريزة إنسانية.

«كوفيد - 19» .. إعادة ضبط إيقاع الحياة

تابع العالم بأسره الفوضى بين الأفراد "المتحضرين".

غالبا ما تأتي الأحداث الكبرى، التي تغير العالم من أشياء صغيرة، عادة ما تتكرر في الحياة اليومية دون أن نحسب لها أو نعيرها اهتماما، هذا واقع الحال اليوم مع فيروس كورونا، الذي صار وباء يغزو العالم، صانعا عالما آخر بديلا عن الذي نعيش فيه، ملغيا إرثا كبيرا من تراكمات الإنسانية؛ عبر التاريخ، بشأن النظام والقواعد والأعراف.. أضحى "كورونا" سيد الموقف على المستويين العالمي والمحلي، حتى الذاتي، فقد أدخل كثيرين؛ طوعا أو كرها، في التأمل والتفكير والتساؤل.. حتى مراجعة الذات بتقييم موقع "الأنا" في وسط "النحن".
تثير هذه الحالة الفريدة، غير المسبوقة في التاريخ، التي تدخل فيها البشرية تدريجيا، أسئلة أكثر مما تقدم إجابات. فهذا الوحش المجهري الذي لا نراه ولا نسمعه، وربما لا نشعر به، جعل كوكب الأرض، في غضون أسابيع معدودة، يرزح تحت رحمته، بعدما أصاب الجميع بالهوس والقلق والرعب.. في عدالة استثنائية؛ أشبه ما تكون بالعدالة في جمهورية أفلاطون، غير آبه بالدولة أو الجنس أو العرق أو المعتقد أو الوظيفة أو المركز الاجتماعي.. فالظاهر أن الجميع سواسية عنده كأسنان المشط.
بعيدا عن الأرقام الثقيلة في الأرواح البشرية، التي حصدتها هذه الجائحة، وحجم الخسائر، التي سيوقعها بالاقتصاد العالمي، والتي لن تقدر بشكل دقيق حتى نهاية هذه الغزوة، حتى إن بدا واضحا من الآن أنها ستتجاوز مئات المليارات لتدخل في خانة التريليونات. يحسب لفيروس كورونا تلك القدرة الرهيبة على إعادة ضبط سرعة الحياة على إيقاع غير إيقاع زمن العولمة والثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي. وكأن هذا الفيروس رسالة تحذير من الطبيعة إلى الإنسانية، من أجل إعادة النظر في مسائل شتى، إن أرادت الحفاظ على البقاء وضمان استمرارية الحياة.
أعادت حالة الحجر الصحي، التي فرضها الوباء طوعا على السكان في معظم البلدان، الاعتبار لمؤسسة الأسرة، النواة الأولى وأصل حياة الإنسان. فقد أخرج العزل الذاتي الأفراد من الشوارع وأماكن العمل، وأرسلهم إلى البيوت مانحا القيمة للحياة العائلية، التي فقدتها في عصر التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، وهكذا شرع الفرد في التعود على العيش بأقل الحاجيات، والقبول بشروط أدنى أو أقل رفاهية.
فرض الانتشار السريع للعدوى بين الدول والأقطار إثارة الأسئلة عن معنى الحدود، والجدران العازلة، التي يدعو رموز الشعوبية إلى إقامتها اليوم بين الدول. فالظاهر أن الإنسانية صارت مترابطة بشكل لا يمكن فصمه، وأن الحدود الطبيعية أو المتخيلة، وما يسوق من أفكار الناس عن جنسيات وقوميات وأعراق الشعوب والأمم، لا تستقيم من دون رؤية الجامع، الذي يجمع الإنسانية، ويجعل المخاطر التي تتهدد أمة ما، أمرا يخص كل شعوب الأرض.
أعاد الوباء الدولة إلى الواجهة، فحتى ثلة المفكرين، الذين سارعوا إلى نعي الدولة، ومعهم منظرو "المابعديات"، تطلعوا إليها في زمن الأزمة. فهي الفاعل الرئيس في أزمة "كورونا"، القادر على المواجهة والتصدي؛ فهي من تقرر وتتخذ الإجراءات، وتصدر الأوامر وتمنع الأنشطة وتحظر التجوال، وتحدد الميزانيات، وتتولى صرفها لمكافحة المرض.. حتى أعداد الضحايا والمصابين هي من تتكفل بتقديمهم. في المقابل، ظل دور المجتمع المدني العالمي والمحلي محدودا جدا، فتحركه يبقى رديف ما تتخذه الدولة من إجراءات وقرارات.
اختبر القطاع الخاص وبعض مرافق القطاع الحكومي، بفعل الإجراءات الاضطرارية، التي فرضتها "كورونا"، تجربة العمل عن بعد، ووقفت عند مزايا هذا الصنف من العمل، التي لم تكن معروفة، واكتشفت إمكانية تخفيض أعداد العمال والأجور وباقي التكاليف كالتنقل، والتغذية...، ويرجح أن يلقى هذا الصنف من العمل في المستقبل اهتماما، ما سيكون له تأثير في عديد من مناحي الحياة.
تابع العالم بأسره الفوضى ومشاهد الصراع بين الأفراد "المتحضرين"، وصور الاجتياح، الذي تعرضت له الأسواق والمتاجر في أمريكا وأوروبا، من أجل الظفر بالمؤونة والمواد الغذائية، قصد تخزينها خوفا من نفادها من الأسواق. ما يؤكد حقيقة، طالما ادعى الإنسان الغربي تجازوها بقيم الحداثة، مفادها بأن الإنسان هو الإنسان بضعفه وهشاشته في الشرق كما في الغرب، مع تسجيل امتياز ديارنا بقدر كبير من التكافل الاجتماعي، الذي يفرض قيم وثقافة المجتمع، فالمجتمعات عندنا "تراحمية" فيما المجتمعات عندهم "تعاقدية".
لقد أجبرت "كورونا" الجميع على إعادة ترتيب الأولويات، فلم يعد السفر على سبيل المثال أولوية، لا برا ولا بحرا ولا جوا، نتيجة ذلك توقف هدير المحركات في كوكب الأرض، وخلت الشوارع من السيارات، وهدأت حركة القطارات والسفن والطائرات. فتنفست السماء الصعداء، بعد التراجع الملحوظ في نسبة التلوث، واستعادت لحظات من النقاء والصفاء، لم تعشها منذ الثورة الصناعية.
كانت القاعدة هي التشكيك في كل منتج ذي منشئ صيني، فالتقليد (غير أصلي) والسلع الصينية وجهان لعملة واحدة. لذا طالت السخرية هذا الفيروس في بداياته الأولى، فاستخف الناس بـ"كورونا" عند لحظة انتشاره خارج الصين. قبل أن يتبين لهم أن "غزوة كورونا" مجرد سلاح تستعيد به الطبيعة حقوقها. فما يجري ليس سوى فصل من فصول إعادة التنظيم على وجه البسيطة.
حتما سيجد العلماء دواء للفيروس، لأن الصراع على أشده بين بكين وواشنطن وبرلين وباريس، فالرغبة في العيش غريزة إنسانية تدفع بالمرء إلى التمرد على كل ما يحول دونها. وحتما ستستأنف الحياة انطلاقتها من جديد بشكل طبيعي، بعد أن تفتح النقاش والتداول العام عن أسئلة كبرى، في السياسة والاقتصاد، كما في الثقافة والمجتمع الإنساني، من شأنها أن تحدد معالم التفكير طيلة العشرية المقبلة.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون