ثقافة وفنون

«التقادم المقصود» .. جشع غير محسوب العواقب

«التقادم المقصود» .. جشع غير محسوب العواقب

تفيد رواية تاريخية تعود إلى عشرينيات القرن الماضي، بأن شركات صناعة المصابيح الكهربائية لاحظت تراجعا واضحا في الإقبال على استهلاك المصابيح، نتيجة ديمومة صلاحيتها التي تصل إلى أكثر من ألفي ساعة، فاهتدى رؤساء هذه الشركات في اجتماع لهم في جنيف أواخر عام 1924 إلى خطة مفادها تخفيض مدة فعالية هذه المصابيح إلى النصف؛ أي ألف ساعة فقط، بهدف مضاعفة الإنتاج وزيادة الأرباح.
بدأت تتشكل من حينها سياسة في مجال الصناعات الاستهلاكية بالدرجة الأولى، تعمل على تقليل العمر الافتراضي للمنتج إلى أقصى قدر ممكن، حتى يتسنى للشركة المنتجة الاستفادة من إصلاحه أو استبداله، بهذه الممارسة تضمن هذه الشركات عوائد تجارية كبيرة، لأنها تزيد من إنتاجيتها، وتعزز ثقافة الاستهلاك في أوساط المجتمع.
تسمى هذه العملية "التقادم المقصود" أو "التقادم المخطط له" planeed obsolescence؛ وعرفها أحد الفرنسيين بأنها ظاهرة اقتصادية تتعلق بالتخطيط الإنتاجي لدورة حياة المنتج الاستهلاكي، بحيث يتم طرح هذا المنتج في نقاط البيع السوقية لفترة محددة من الزمن، ثم استبداله بمنتج استهلاكي آخر يؤدي الوظيفة نفسها، عن طريق وقف تسريق الأول أو التوقف عن إنتاج قطع غيار له، أو طرح بديل مطور عنه، ذلك لحمل المستهلكين على تغييره وشراء البديل الجديد، رغم كون الأول ما زال صالحا للاستعمال.
تحول التقادم المخطط له إلى أمر شائع في هذا العصر الراهن، فعديد من الشركات؛ خاصة في مجال التكنولوجيا، يعمد إلى صناعة أجهزة وبرامج وتطبيقات.. باختصار، منتجات عصية على الإصلاح؛ فهي إما مصممة على التلف مع كثرة الاستعمال، أو تصير غير مطابقة للمعايير بعد مدة معينة من تشغيلها، ما يجعل النتيجة واحدة في النهاية، ألا هي ضرورة استبدال المنتج بآخر جديد بشكل منتظم، عكس ما كان عليه حال الزبائن في الماضي. يحدث أن نواجه في الحياة اليومية كثيرا من الأشياء التي جرى تصميمها وفق هذه القاعدة، إذ تتوقف عن العمل بعد فترة زمنية معينة تم تحديدها مسبقا، فعلى سبيل المثال، وغير بعيد عن القراءة والأوراق، تُزرع في معظم الطابعات شرائح إلكترونية تعطلها بعد طباعة عدد محدد من الأوراق، من دون أن يكون للعطل أي علاقة بمدى جودة حالتها الفنية. ذات القاعدة تسري على معظم الهواتف الذكية التي أصبح المستهلك مضطرا إلى التخلص منها مكرها، بسبب عدم دعمها برمجيا لمطابقة أنظمة التشغيل الأحدث.
يتسع نطاق إعمال هذه القاعدة الرأسمالية مع تنامي موجات الثورة الرقمية، لتتوالى الأسئلة تباعا بشأن مدى الحاجة الماسة إلى تطوير كل منتج جديد؟ وماذا عن الموارد الطبيعية المستخدمة في هذه العملية؟ وهل القصد مما تنتجه الشركات استمرار تلبية الطلب أم أن الفرد يشتري ما تقدمه السوق لغرض الشراء في حد ذاته؟ ثم ماذا عن مصير الأطنان من النفايات "الخردة" التي تخلفها عملية الإيقاف القسري لهذه المنتجات والسلع؟
ربما كان الإشكال الأخير دافعا أساسيا، حتم بقوة ضرورة التفكير في هذا المبدأ، وما يتولد عنه من نتائج ستكون كارثية في المدى القريب. صحيح، أن الجميع "سياسة ورجال اقتصاد" تحدوهم رغبة في تحريك الاقتصاد؛ برفع نسبة النمو ومعدلات الإنتاج.. لكن لا أحد بمقدوره تحمل تبعات ذلك، خاصة، في الجانب البيئي، فالخردة الإلكترونية مثلا أضحت مشكلة عالمية؛ بفعل صعوبة إعادة تدوير المستعمل من المخلفات الإلكترونية "الهواتف، الحواسب، الألواح، الشاشات المسطحة...".
يجني العالم المتقدم بسبب قاعدة "التقادم المخطط له" مغانم لا تحصى، لكنه لم يفكر جيدا فيما يرافق تلك المكاسب من تكلفة؛ فالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي من أكبر المنفقين على المنتجات الخاضعة لمبدأ التقادم، ما يخلف سنويا أطنانا من النفايات السامة التي تشكل تهديدا مباشرا للبيئة وصحة الإنسان.
تدريجيا، تعالت الأصوات للمطالبة بحل هذه المعضلة من خلال التدخل الحكومي لإجبار الشركات على الحد من هذا التقليد المتبع، كما تمت المناداة بضرورة وضع معايير دنيا بشأن القابلية للتصليح، وكذا قابلية تحديث المنتجات، إضافة إلى خفض نسبة الضرائب على الشغل، ورفع الضرائب على استهلاك الطاقة والمواد الخام؛ بمعنى رفع تكاليف التصنيع... وما إلى ذلك من الطرائق، التي قد تحد من هذه الممارسات.
يذكر أن التقادم المخطط له ممارسة مجرمة في بعض الدول، فقد أصدرت فرنسا في حزيران (يونيو) 2015 قانونا يقرر اعتباره جريمة يعاقب عليها القانون بالسجن لمدة عامين، وغرامة تصل إلى 300 ألف يورو، وبموجب هذا القانون، تلتزم الشركات الفرنسية بإبلاغ المستهلكين حول المدد التي ستكون قطع غيار المنتجات التي اشتروها متوافرة خلالها، ذلك تحت طائلة الغرامة أيضا. قدمت 18 ولاية أمريكية من جهتها، مشاريع قوانين بهذا الشأن، من قبيل مشروع قانون يقضي بمنح المواطنين "الحق في التصليح"، فارضين على الشركات توفير دليل تعليمات خاص للمستهلكين من أجل تصليح أجهزتهم، بدلا من السعي إلى شراء أجهزة جديدة، والحد من سيطرة الشركات المصنعة على عملية تصليح الأجهزة، بمعنى ضرورة الموازنة بين تمديد عمر المنتج وضمان توفير قطع الغيار، وسهولة الإصلاح وقابلية استبدال المكونات. من نتائج مناقشة هذه القاعدة قيام السلطات الإيطالية بفرض غرامة وصلت إلى عشرة ملايين يورو على شركة "أبل"، ونصف المبلغ على شركة "سامسونج"، بسبب هذه السياسة، وتواجه الأولى اتهامات جنائية خطيرة في فرنسا جراء ممارستها سياسة "التقادم المخطط" في فرنسا، ما يعني في المحصلة أن دائرة السجال بشأن المسألة تكبر ونطاقها يتسع، رغم ما لمثل هذه الإجراءات من تأثير في النمو الاقتصادي، وهذا ما يتفاداه السياسيون كثيرا، فهو يسقط عنهم دور البطولة، الذي يسعون دائما لأن يظهروا به.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون