FINANCIAL TIMES

إسبانيا تنشد بلا طائل كسر الجمود السياسي

إسبانيا تنشد بلا طائل كسر الجمود السياسي

إسبانيا تنشد بلا طائل كسر الجمود السياسي

تم إخراج جثة الديكتاتور القديم فرانكو من الضريح، وهو الذي حكم إسبانيا نحو 40 عاما باسم الملكية، على الرغم من أنه هو الذي أمر ببنائها.
حملت طائرة هليكوبتر بيضاء بقايا رفات فرانسيسكو فرانكو، إلى مدفنه الجديد العادي.
أشاد بيدرو سانشيز، رئيس الوزراء في حكومة تصريف الأعمال في إسبانيا، بالأحداث باعتبارها انتصارا للديمقراطية، على الرغم من أن البلاد إحدى قصص النجاح الكبرى للاتحاد الأوروبي في العقود الأخيرة تعيش الآن واحدة من أعمق الأزمات السياسية منذ وفاة فرانكو عام 1975.
قال سانشيز وهو يحتفل بنقل جثة فرانكو إلى مقبرة خاصة: "إسبانيا الحديثة هي عكس ما يمثله نظام فرانكو. كانت هناك عزلة، وهناك اليوم أوروبا؛ حيث كانت هناك المباهاة بالعضلات، هناك الآن مساواة وتسامح".

هل هي نهاية النجاح؟
السؤال الآن هو ما إذا كانت قصة النجاح هذه في سبيلها إلى الانتهاء.
تعاني إسبانيا شكلا شديدا من الضيق الذي أصاب الاتحاد الأوروبي: الاستقطاب الاجتماعي والسياسي وتفتت نظام الأحزاب.
لا تتصدى البلاد لأزمة كاتالونيا فحسب، وهي النزاع الإقليمي الأكثر مرارة في أوروبا الغربية، بل أيضا لتمزق النظام السياسي القديم الذي أدى إلى انتخاباتها العامة الرابعة منذ أربعة أعوام بالكاد بعد ستة أشهر من الانتخابات الأخيرة.
وكانت النتيجة عدم الاستقرار والركود: البرلمانات غير قادرة على العمل الأساس للموافقة على القوانين ودفع الميزانيات. استقطبت الأزمة في كاتالونيا الرأي على جانبي الطيف السياسي، على الرغم من الدلائل على أن الغضب قد يبرد قريبا.
وقال سانشيز خلال مناظرة تلفزيونية لزعماء الأحزاب يوم الإثنين الماضي: "علينا إنهاء المأزق الذي يمثل المشكلة السياسية الرئيسة في إسبانيا".
تشير استطلاعات الرأي إلى أن حزب سانشيز الاشتراكي سيتصدر قائمة الاقتراع، لكن بحصة متراجعة من الأصوات ودون أي فرصة للأغلبية في مجلس النواب المؤلف من 350 مقعدا.
الأرقام متقاربة إلى حد كبير على نحو لا يمكن معه القول، ما إذا كانت القوى المشتركة لليسار أو اليمين ستأتي في المقدمة، أويمكن أن تتعدى الأغلبية.

المعضلة السياسية
أثبتت الأحزاب السياسية الجديدة مثل اليسار الراديكالي أي حزب بوديموس وحزب سيودادانوس المؤيد للسوق التي ظهرت استجابة للأزمة المالية وفضائح الفساد، أنها قوية بما يكفي لتقويض القوى القديمة من يمين ويسار الوسط، لكنها أيضا ضعيفة على نحو لا يكفي لتحل محلها.
انتخابات يوم الأحد الماضي، تبرز فيها كاتالونيا باعتبارها القضية المهيمنة، لكنها تبرز أيضا المخاوف بشأن تباطؤ الاقتصاد الذي كان ناجما عن فشل سانشيز في الاتفاق مع ائتلاف مع حزب بوديموس اليساري.
أما تحالف سيودادانوس من اليمين، فقد رفض حتى التفكير في إمكانية التوصل إلى اتفاق مع الاشتراكيين، حتى اللحظة الأخيرة.
منذ فترة طويلة والسياسة في البلاد مستقطبة. لم تكن هناك قط حكومة ائتلافية في إسبانيا الديمقراطية الحديثة.
أحد المحاربين القدامى في حزب الشعب من يمين الوسط يتهم الاشتراكيين الذين منعوا من ممارسة السياسة خلال عهد فرانكو بأن لديهم إحساسا بالتفوق الأخلاقي.
على أن سياسة الانقسام تنتشر. اليمين المتطرف آخذ في الارتفاع، في بلد يعد منذ فترة طويلة، تم تلقيحه ضد هذا التطرف بسبب الذاكرة الحية للفاشية.
الأحزاب الانفصالية الكاتالونية، التي من شأنها في ظل ظروف أخرى أن تحتفظ بميزان القوة بعد أي انتخابات، يتجنبها الآن كل من الاشتراكيين وحزب الشعب. اجتاحت كاتالونيا احتجاجات ضخمة وأحيانا عنيفة منذ أن أصدرت المحكمة العليا في إسبانيا، أحكاما بالسجن في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، على تسعة انفصاليين لدورهم في استفتاء غير قانوني عام 2017 وإعلان الاستقلال.
تحظى الأحزاب المؤيدة للاستقلال في كاتالونيا بدعم نحو مليوني ناخب، من أصل أربعة ملايين ناخب في المنطقة.
على أن الحملة الانفصالية أثارت ردود فعل عنيفة في أماكن أخرى من إسبانيا، حيث يأمل حزب فوكس اليميني المتطرف الذي دعا إلى فرض حالة الطوارئ في المنطقة إلى أن يصبح ثالث أكبر قوة في البرلمان بعد الانتخابات الأخيرة.
في هذه الأثناء، رأى تحالف سيودادانوس، الذي كان يرجو أنصاره أن يثبت نفسه كحزب وسط ليبرالي، تراجعا في دعمه في صناديق الاقتراع.
برلمان إيطالي في إسبانيا
قارن فيليبي جونزاليس، رئيس وزراء إسبانيا الاشتراكي بين عامي 1982 و1996، حالة عدم الاستقرار السياسي في البلاد بحكومات ما بعد فرانكو التي طال أمدها، عندما ركزت إسبانيا على الانضمام إلى المجموعة الأوروبية أولا ثم على اليورو.
تحدث الشهر الماضي وقال إن إسبانيا لديها "برلمان إيطالي" من حيث الدعم الحزبي المتصدع لكن لا يوجد "سياسيون إيطاليون" لإتقان العمل.
كانت مقارنته جارحة. حتى وقت قريب، كانت إسبانيا تعد ديمقراطية مثالية، وإيطاليا ديمقراطية مختلة. كانت وجهة نظره هي أن إسبانيا بحاجة إلى تجاوز الاستقطاب. ومع ذلك يبدو أن العكس هو الصحيح.
يقول إجناسيو توريبلانكا من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "لدينا الآن نوعان من الاستقطاب يغذيان بعضهما بعضا. أحدهما هو الفجوة الإيديولوجية بين اليسار واليمين، والآخر هو النقاش حول كاتالونيا".
للوهلة الأولى، يبدو المقر الاشتراكي في برشلونة أشبه بمركز شرطة تحت الحصار، أكثر منه مركزا حيا للحزب الحاكم في البلاد.
يتميز المبنى ببقع من الطلاء الأصفر -لون الاحتجاجات على الاستقلال الكاتالوني- في حين أن الجدران الموجودة على كلا الجانبين، تم رشها بالرسومات الانفصالية. ومع أن الوقت هو منتصف النهار، إلا أن الأباجورات مغلقة.
إذا أراد سانشيز تشكيل حكومة مستقرة، فإن حزبه الاشتراكي يحتاج إلى إحراز نتيجة قوية في كاتالونيا.
يقول سلفادور إيلا، مدير حملة الاشتراكيين في المنطقة: "لم يحقق الحزب قط فوزا قويا في الانتخابات العامة دون أن يحقق نتائج جيدة في كاتالونيا".
وهو يسلط الضوء على مكانة كاتالونيا، إلى جانب الأندلس، باعتبارهما أكثر مناطق البلاد اكتظاظا بالسكان، وأكبر مصوتين لمصلحة حزبه.
في الانتخابات العامة التي جرت في نيسان (أبريل) الماضي، فاز الاشتراكيون بنسبة 29 في المائة من الأصوات الوطنية، ما وضع الحزب بشكل مريح في المقام الأول، لكن حرمه من عدد المقاعد التي أرادها لتشكيل حكومة مستقرة.

كاتالونيا بيضة القبان
في كاتالونيا، فاز بنسبة 23 في المائة، حيث كان على مسافة 60 ألف صوت من الحزب المنتصر المؤيد للاستقلال: اليسار الجمهوري الكاتالوني أو ERC، وحصل على 12 مقعدا.
على الرغم من دلائل استطلاعات الرأي على تراجع التصويت لمصلحة الاشتراكيين، يقول إيلا إنه يتوقع أن يحصل على نتيجة متساوية أو أفضل نتيجة بفضل الانقسامات في صفوف الانفصاليين، ودعم الاستجابة الاشتراكية "المناسبة" للأزمة.
ومع ذلك، فإن بقع الطلاء والكتابة على الجدران هي شهادة على قوة الشعور لدى خصومه.
يقول سيرجي صبريا، رئيس مجموعة اليسار الجمهوري ERC في البرلمان الكاتالوني: "حكم على زعيم حزبنا للتو بالسجن لمدة 13 عاما"، في إشارة إلى الحكم ضد أوريول جونكويراس، نائب الرئيس السابق للإدارة الإقليمية: "لن نواجه أي مشكلة في تعبئة الناخبين؛ الناس غاضبون" حسب قوله.
الصراع بين الانفصاليين في كاتالونيا ومدريد له جذور عميقة. أحد أكثر عوامل التنبؤ دقة حول ما إذا كان الناخب يفضل الانفصالية، هو ما إذا كان معظم أجدادهم قد ولدوا في كاتالونيا، أم هاجروا إليها من أجزاء أخرى من إسبانيا، التي عادة ما تكون أكثر فقرا؟
هناك روايات مختلفة اختلافا جذريا عن سبب حصول حملة الاستقلال على دعم على مدار العقد الماضي. يستشهد كثير من الانفصاليين بحكم قضائي أصدرته المحكمة الدستورية الإسبانية عام 2010، وهو يبطل أجزاء من النظام الأساس الذي يحدد سلطات المنطقة وهو قرار لا يزال يثير غضب المؤيدين للاستقلال، الذين غالبا ما يشجبون الدولة الإسبانية باعتبارها "فاشية".
منتقدو الانفصالية يربطون صعود الحركة بسلسلة من فضائح الفساد. وكرد فعل، أعادت المؤسسة السياسية في المنطقة تغيير اسمها، واعتنقت النزعة الانفصالية وحاولت أن تتفوق على الجماعات المؤيدة للاستقلال في هذا الصدد.
يتحدث حزب الشعب أيضا عما يعده خطأ أساسيا من مدريد في الحقبة الديمقراطية: قرار الحكومة المركزية بعدم اتخاذ دور بارز في الحياة اليومية في كاتالونيا.
تقول كايتانا ألفاريز دي توليدو، المرشحة الرئيسة لحزب الشعب في المنطقة: "خلال الـ30 إلى الـ 40 عاما الماضية في كاتالونيا، كانت لدى إسبانيا سياسة استرضاء النزعة القومية. تم منح القوميين الكاتالان كل القوة في التعليم والثقافة والاتصال."
حزب الشعب، الذي ينتقد ما يعده نهجا سانشيزيا سلبيا تجاه كاتالونيا، ليس سوى لاعب ثانوي في المنطقة.
في الانتخابات الأخيرة، فاز بمقعد واحد فقط وأقل من 5 في المائة من الأصوات.
الآن، يظهر عديد من استطلاعات الرأي الوطنية أن حزب الشعب يضيق الفجوة على الاشتراكيين، وهو الاتجاه الذي تنسبه السيدة ألفاريز دي توليدو إلى الخط المتشدد لحزبها بشأن الانفصالية، من بين عوامل أخرى.
تظهر الاستطلاعات الحديثة فوز فوكس بنحو 13 في المائة من الأصوات. يتنبأ الحزب بأن مؤيديه الذين يجتذبهم خطه المتشدد بشأن كاتالونيا، سيتحولون إلى قوة، حتى مع انخفاض المشاركة الكلية.
يقول إيفان إسبينوسا دي لوس مونتيروس، القائد الذي يأتي في المرتبة الثالثة لحركة فوكس: "عدد قليل جدا من ناخبينا يشعرون بخيبة أمل معنا. كنا متشددين للغاية مع اليسار والنزعة الانفصالية، وهما في رأينا التهديدان اللذان يواجهان إسبانيا".

استمرار الاستقطاب الحاد
هناك دلائل تشير إلى أن قوى الاستقطاب في إسبانيا لم تنحسر بعد. أوضح هذه الدلائل هو أن المواجهة في كاتالونيا تبدو وكأنها تفقد قدرتها.
تستمر الاحتجاجات، مع انحسار الاشتباكات العنيفة واسعة النطاق بين المحتجين والشرطة في الأيام القليلة الأولى، بعد صدور أحكام بالسجن على قادة الانفصاليين في كاتالونيا.
يجادل أحد كبار قادة حزب اليسار الجمهوري لكاتالونيا بأنه لا جدوى من إذكاء التوتر مع الحكومة المركزية، إذ ليس هناك أي احتمال للاستقلال في المستقبل القريب. بدلا من ذلك، يقول، إنه وقت للحوار والتوحيد.
وتقول مدريد إن مطالب الانفصاليين بالمناقشة، بما في ذلك العفو عن السجناء المدانين بالانفصال، ليست مفتوحة للتفاوض.
فريق سانشيز يقترح طريقة لتجاوز المأزق بالنسبة إلى إسبانيا ككل، فهو يعتقد أنه طالما بقي الاشتراكيون أكبر مجموعة في البرلمان، فإن ذلك سيصبح عاملا يسمح لهم بتشكيل حكومة.
رهانهم هو أنه، نتيجة شعور الجمهور بالإجهاد من تكرار الانتخابات، لن تجرؤ المعارضة على إجراء انتخابات خامسة في غضون خمسة أعوام.
بعد ذلك، فإن اعتماد القوانين والموافقة على الميزانيات ومحاولات الإصلاح الهيكلي، سيتوقف على بناء ائتلاف رسمي أو غير رسمي.
هناك أسباب أخرى تشير إلى أن إسبانيا قد تنتعش. على الرغم من البطالة البالغة 14 في المائة، وضعف هذه النسبة لدى الشباب على مدى العقد الماضي، فقد شهدت البلاد انتعاشا مثيرا للإعجاب من أزمتها الاقتصادية المدمرة، وتصنف الآن واحدة ضمن أسرع الاقتصادات نموا في منطقة اليورو.
وقد سبق أن استوعبت بنجاح ملايين المهاجرين من أمريكا اللاتينية، وأماكن أخرى في الاتحاد الأوروبي. اليوم واحد من كل ثمانية أشخاص يعيشون في البلاد ولدوا خارج إسبانيا.
منتقدو سانشيز يتهمونه بإثارة الانقسامات التي تعود إلى حقبة فرانكو، عن طريق استخراج جثته، وهو ما يصورونه بأنه حيلة انتخابية.
عملية استخراج الجثة تمت بسلاسة معقولة، دون إثارة السباق الانتخابي بصورة ملحوظة، تميزت بخطاب أقل إثارة من انتخابات نيسان (أبريل) الماضي. بدلا من ذلك، يركز حزب الشعب والاشتراكيون على اقتناص الناخبين الوسط الساخطين من تحالف اليسار المعروف باسم سيودادانوس.

احتراق بطاقة فرانكو
يرفض خافيير سركاس، المؤلف الذي درس الانقسامات التي تسببت فيها الحرب الأهلية، فكرة أن فرانكو لا يزال قضية خلافية في المجتمع الإسباني ويشيد بتحول البلاد منذ وفاة الديكتاتور باعتباره إنجازا دائما.
"على الرغم من مشكلاتها وعيوبها الهائلة، كانت هذه الأعوام الـ40 الماضية، من حيث الحرية والازدهار والمساواة، هي الأفضل في تاريخ إسبانيا الحديث".
ومع ذلك، هناك كثير من التشاؤم قبل التصويت يوم الأحد.
يقول بابلو سيمون، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كارلوس الثالث في مدريد: "تشير الاستطلاعات إلى أن المأزق سيستمر، مع ارتفاع الدعم لليمين المتطرف. من الصعب أن نرى كيف سيوافق أغلب النواب في الكونجرس الجديد على أي خطة مشتركة. مشكلة إسبانيا ليست من سيكون الحكومة المقبلة؟ بل ما إذا كان بإمكانها أن تحكم البلاد؟"

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES