ثقافة وفنون

أدب الحداثة .. أنا أتألم إذن أنا موجود

أدب الحداثة .. أنا أتألم إذن أنا موجود

أدب الحداثة .. أنا أتألم إذن أنا موجود

يرى ميلان كونديرا الروائي التشيكي أنه "مثلما قالت فلسفة الحداثة مع ديكارت (أنا أفكر إذن أنا موجود)، قال أدب الحداثة أنا أتألم إذن أنا موجود"، وكأنه يحاول تجسير العلاقات بين الفلسفة والأدب، سعيا إلى تفنيد الادعاء القائل "إن الفلسفة والأدب مسعيان بشريان متمايزان يعملان في فضاءين متضادين". فالفلسفة من منظورهم تخاطب النخبة، وتعتمد التعميم والتجريد، وتتطلب مهارات متميزة للعقل التحليلي القادر على التنقيب في مشكلات مفاهيمية، باستخدام لغة مقتصدة تبغي الوضوح، بعيدا عن الانشغالات الذاتية، في حين يتوجه الأدب إلى العامة، معتمدا على التخصيص والتشخيص، باستخدام لغة سحرية غامضة، تتماهى مع خصوصية كل كاتب.
ذهب أنصار القطيعة بين حقلي الأدب والفلسفة حد القول "إن ظهور أي أفكار فلسفية في الأعمال الروائية، لا يعدو أن يكون مجرد انعكاس غير منطقي لما اختزنه الروائي من معارف فلسفية". يعدم هؤلاء إذن أي إمكانية للاتصال بين العالمين؛ ولا مجال عندهم لأي حديث عن شيء يدعى "الرواية الفلسفية"، فالفلسفة تطرح كل الأوهام جانبا، في حين إن الأدب يوجدها.
يعد ألبير كامي الفيلسوف الفرنسي أحد منتقدي هذا الطرح، عادّا "الروائيين العظماء فلاسفة عظماء". فالرواية -بالنسبة إليه- ما هي إلا فلسفة صيغت في صورة خيالية، تنمحي في تفاصيل الحبكة، كلما كان العمل الروائي جيدا، وتبرز فاقعة متى كانت متدفقة على ألسن الشخصيات والأحداث، لتفقد النص الروائي قوته. وعلى الشاكلة ذاتها تكون الفلسفة مجرد رواية؛ أي سرد لتجارب الحياة، تصاغ وفق تصورات ذهنية.
وهم الفصل هذا تفنده معطيات الواقع، فكثير من الفلاسفة كانوا أدباء لامعين، من بينهم: نيتشه، شوبنهاور، كيركيجارد، جون بول ساتر، ومونتسكيو، وقد خلف بعضهم أعمالا روائية صنفت في قائمة روائع الأدب الإنساني. وكتب أدباء من جنسيات مختلفة أمثال توماس مان الألماني، روبرت موسيل النمساوي، جوستان جرادر النرويجي، أوسكار وايلد الإنجليزي، باولو كويلو البرازيلي، وهنري ثورو الأمريكي، روايات مفعمة بالرؤى والقضايا الفلسفية الشائكة.
يرى أحدهم في حديث برتراند رسل الفيلسوف الإنجليزي، في كتابه "حكمة الغرب" (1959)، عن أن "الشكل الروائي يتيح أفضل وسيلة لعرض التأملات المتعلقة بمحنة الإنسان" منطلقا للتأسيس لبداية الرواية الفلسفية. لكن هذا القول غير دقيق، وفيه تجن كبير على هذا الصنف الروائي العريق، فانبعاث هذا الفن مرتبط باعتماد الأدباء والكتاب أسلوب الحجاج والجدل والتفلسف في المتن الروائي.
يحفل التراث العربي بأعمال كثيرة اعتمدت على الفلسفة في متنها، لعل أشهرها على الإطلاق رائعة "حي بن يقظان" لأبي بكر بن طفيل، حيث يقدم فلسفته حول الفطرة والعقل مستندا في الأساس إلى فلسفة "تدبير المتوحد" للفيلسوف ابن باجه. يكشف المتن الروائي لابن طفيل على لسان الراوي قصة طفل في جزيرة ارتبط بظبية، خلف موتها لديه شعورا بالحزن، فبدأت الأسئلة الوجودية عن ذاته وعن الحيوانات، وعن الصانع الأكبر لهذا الوجود، وعن ماهية الإنسان والتدين والنفاق، تتناسل في مخيلته. بذلك جمع بين الفلسفة اليونانية والتصوف الشرقي ليؤسس لفلسفة قوامها اعتماد الإنسان على ذاته في النظر والبحث، قصد الوصول إلى كينونته من دون وسيط.
استعان فلاسفة عصر التنوير بفن الرواية، قصد التعبير عن أفكارهم الفلسفية، فكتب فولتير الفيلسوف الفرنسي رواية كانديد (1759)، التي أسند فيها دور الراوي إلى بنجلوس مدرس الفلسفة الريفي الساذج، حول أحداث تتولى نقد نظرية ليبنتز الفيلسوف الألمانى، بشأن تفسيرات وجود الشر في العالم، مع أن الله خير محض، فيرى أن الحكمة الإلهية رغم كل شيء، اختارت لنا أفضل العوالم الممكنة.
فرضت الرواية الفلسفية نفسها جنبا إلى جنب مع باقي الأصناف الروائية، فتدريجيا بدأ هذا النوع يصنع لنفسه مكانة في خريطة الرواية في العالم، وترك رواده أعمالا روائية دخل بعضها سجل التاريخ، وقد بات الحديث اليوم عن تمثيلية لهذه الرواية، بأسماء لمبدعين وعناوين روائية، في جل الأقطار تقريبا، وطيلة عقود من الزمن.
في اليابان مثلا يحضر ياسوناري كواباتا أول أديب حائز جائزة نوبل (1968)، كممثل عن الرواية الفلسفية برائعته "صوت الجبل" (1954) التي تحكي عن رجل أعمال يدعى شينجو، يقترب من التقاعد، فتراوده كوابيس وأحلام مزعجة وأصوات غريبة يعدها نذير موت وشيك. يمكن وصف الرواية بأنها تأملات في الحياة والحب والعشرة، ومديح لكل ما هو إنساني في الكون.
وشمال أوروبا نذكر "عالم صوفي" (1991) للروائي النرويجي جوستاين جاردر، حيث تدور حوارات فلسفية عميقة بين صوفي الفتاة المراهقة ورجل يدعى ألبرتو كونكس، باكورتها سؤال "من أنت، ومن أين جاء العالم"؟ ومن خلال هذا السؤال تبدأ صوفي رحلتها في تعلم تاريخ الفلسفة، حيث تتيقن بأنها السبيل الوحيدة لمعرفة إجابات، تجعل القارئ يتأمل العالم والكون من خلال عديد من الأسئلة الفلسفية العميقة.
فرضت إليزابيث جيلبرت نفسها كروائية عن هذا الصنف في الولايات المتحدة الأمريكية بروايتها "طعام، صلاة، حب" (2006) التي تحكي عن امرأة ناجحة في حياتها ظاهريا، لكن الخوف والذعر ينتابانها في العمق، فتقرر فجأة التخلي عن كل شيء من حولها، لتخوض غمار البحث عما تريده حقا من الحياة، فتبدأ بدراسة ثلاثة جوانب مختلفة من الحياة في ثلاث ثقافات مختلفة، لتكتشف فن السرور في إيطاليا، وفن التنوير الروحي في الهند، ومن ثم التوازن بين الأمرين في جزيرة بالي الإندونيسية.
قد يطول بنا السرد لعناوين مثل "رسائل خربر" لسي إس لويس الإيرلندي، "ولدن" للهنري ثورو الفيلسوف الأمريكي، "زوربا" لكازانتراكيس اليوناني، و"سدهارتا" لهيرمان هسه الألماني... إلخ، من الروايات التي تجد نفسها ضمن خانة "الرواية الفلسفية"، سواء تعمد أصحابها ذلك عند الكتابة أم لا. فالفلسفة باتت أكثر من أي وقت مضى منهلا لسرد الروائي، ففي ثنايا الأعمال الروائية نجد ما يؤكد هذه العلاقة، ويصوغ المقولات الفلسفية ويناقشها أو يتداخل معها، من خلال جماليات الفن، وما تحمله من قيم إنسانية.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون