Author

الشركات الخوارزمية واحتكار الإعلان

|
أستاذ جامعي ـ السويد


قد لا يخطر ببالنا لماذا تتعارك الشركات الخوارزمية العملاقة على كسب العملاء والمستخدمين، ولماذا تجبرنا على التسجيل فيها رسميا قبل الاستفادة من خدماتها المجانية؟
وقد لا نعلم كيف تعيش هذه الشركات وتراكم الثروة وتصل قيمتها السوقية مبالغ خيالية وهي تقدم أغلبية خدماتها مجانا؟
والحديث عن أي عملاق خوارزمي لن يكون نافعا وسيجانب الواقع الافتراضي الذي نعيشه إن تجاوز "جوجل" و"فيسبوك".
والعملاقان أشهر من نار على علم. وإن أخذنا سطوتهما وتأثيرهما على مستوى العالم في عين الاعتبار، فإننا نكون أمام إمبراطوريتين لم يشهد العالم مثيلا لوجودهما الواقعي الافتراضي من حيث مساحة الأرض التي يعملان فيها وبحرية تكاد تكون شبه مطلقة.
وباستثناء الصين وفي حدود ضيقة، ربما ليس بمقدور أي بلد في الدنيا العيش ولو لساعات محدودة دونهما.
ومن حيث عدد الأتباع أو "الرعايا" فإننا نكون أمام ظاهرة لا سابق لها في التاريخ حيث إن أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية سجلوا أسماءهم طوعيا في سجلات "النفوس" التابعة لهما.
والعملاقان في طريقهما إلى الاستحواذ على درة كانت إلى ما قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن مثل الدجاجة التي تبيض ذهبا بالنسبة للصحافة.
والدرة هذه هي الإعلانات التي وصلت قيمتها في العام الماضي على مستوى العالم إلى أكثر من 1.2 تريليون دولار، نحو 250 مليار دولار منها أمريكية المنشأ.
وقبل بزوغ الثورة الخوارزمية في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، كانت الصحافة الورقية والقنوات التلفزيونية والإذاعات تستحوذ على حصة الأسد من ريع الإعلان. وفي الحقيقة، كانت الصحافة تعيش في بحبوحة المال الذي يردها من الإعلان.
اليوم يستحوذ هذان العملاقان وحدهما على 60 في المائة من ريع الإعلان في الولايات المتحدة. وسيشهد هذا العام تفوق النفقات التي يصرفها المعلنون خوارزميا على مثيلاتها في الوسائل التقليدية الأخرى لأول مرة في الولايات المتحدة، حيث ستصل إلى نحو 54 في المائة (نحو 129 مليار دولار) من مجموع النفقات.
الأموال الطائلة هذه يتم تفريغها من جيوب وسائل الإعلام التقليدية من صحافة وتلفزيون وإذاعة كي تنساب إلى خزائن الشركات الخوارزمية العملاقة ولا سيما "جوجل" و"فيسبوك".
مقابل الزيادة المطردة في نسبة التحصيل من الإعلانات للوسائل الخوارزمية، سيكون هناك انخفاض وانكماش ملحوظ في واردات الإعلان بالنسبة للوسائل التقليدية.
وتعد الصحافة الورقية "الصحف والمجلات" من أكثر الضحايا تأثرا، حيث يتوقع انخفاض وارداتها، التي هي في الأساس شحيحة، بنسبة تصل إلى 18 في المائة هذا العام عن العام الفائت.
ويتساءل المراقبون اليوم كيف لشركتين فحسب أن تمتلكا كل هذا التأثير والسطوة والمال، ومن ثم كيف لهما السيطرة على أسواق الإعلان والبيانات والمعلومات؟
في السابق، وفي الولايات المتحدة، كانت الجهات التشريعية الفيدرالية تفتت هكذا شركات تطبيقا لتشريعات مكافحة الاحتكار.
ولم تحرك السلطات الفيدرالية ساكنا للحد من سطوة العملاقين، ولكن تم أخيرا تحريك دعوى ضدهما من قبل مدعين عامين وليس السلطات الفيدرالية، رغم أنه صار من الصعوبة بمكان احتواؤهما.
ففي غضون عقدين ونيف من الزمن، تمكن هذان العملاقان ليس فقط من تكديس الثروة على حساب الإعلام التقليدي بل تقديم نفسيهما كمزودين رئيسين للأخبار.
وإن كانت عامة الناس لا تكترث كثيرا لمصداقية المعلومات التي تصل إليهم وطريقة جمعها وتبويبها وتقديمها حتى كتابتها، فإن الأخبار التي تقدمها هاتان الشركتان صارت تقلق دولا كبرى ومنها أمريكا ذاتها.
ويعد احتكار انسياب المعلومات القلب النابض لهاتين الشركتين لأنه الوسيلة المتاحة لهما لاحتكار ريع الإعلان ليس في الولايات المتحدة فحسب بل في كثير من بقاع الدنيا.
من النادر أن يدخل إعلان إلى الفضاء الخوارزمي اليوم دون علم "جوجل" أو "فيسبوك". لقد وضع هذان العملاقان عقليهما الخوارزميين لتقديم وتصميم الإعلانات حسب الطلب والجغرافيا والثقافة والتقاليد والسلوك الاستهلاكي الخاص بالمتلقي.
والشركات التي تبيع الإعلانات لم يعد في إمكانها تجاوز العملاقين، اللذين وحدهما يسيطران على أكثر من نصف ريع الإعلانات في العالم.
وصرنا نشاهد احتضار الصحف والمجلات وبأعداد كبيرة بعد أن تمكن "جوجل" و"فيسبوك" تقريبا من تجفيف وارداتهما من الإعلان.
وتشير الإحصاءات إلى ضمور نحو ألفي صحيفة يومية في الولايات المتحدة منذ عام 2007. قبل نحو عقدين، كانت الولايات المتحدة تملك أكثر من ثلاثة آلاف صحيفة يومية.
ولم يرافق غياب هذا العدد الكبير من الصحف اليومية انخفاض في شهية الناس للأخبار. الناس تحب الأخبار وتبحث عنها.
ولكن مع الأسف، جرى احتكار انسياب الأخبار. فبدلا من أن تنساب الأخبار من آلاف المنصات المهنية التي يعمل فيها صحافيون متمرسون، صارت الأخبار بيد الثنائي الرقمي – "جوجل" و"فيسبوك". في نحو الـ15 عاما الماضية من عمر الثورة الرقمية الذي لا يتجاوز ثلاثة عقود، خسر أكثر من نصف الصحافيين الأمريكيين وظائفهم.

إنشرها