خيارات المثالية .. والانشغال

أغلب الناس مشغولون إلى حد كبير بشكل يومي. فالعمل لا ينتهي، ويجب اصطحاب الأطفال بعد المدرسة لممارسة بعض الأنشطة، والبريد الإلكتروني ممتلئ، وسيأتي والداك لزيارتك في عطلة نهاية الأسبوع. تتمنى أن تبطئ الحياة من وتيرتها، لكن ماذا لو كان هناك جانب إيجابي لكونك كثير المشغولية؟
في الحقيقة يوجد سبب وجيه لكون أشخاص قلة راضين عن نمط حياتهم المزدحم. ففي عديد من المجتمعات يكون الانشغال بمنزلة شارة شرف تلبس بكل فخر. فالشعور بكونك مطلوبا يمنحك شعورا جيدا حيال نفسك ويعزز صورتك الذاتية.
بحسب ورقة عمل نشرناها في "مجلة أبحاث المستهلك" فإن الجرعة الزائدة من الثقة بالنفس تعزز من القدرة على التحكم بالنفس. حيث وجدنا أن الأشخاص الذين ينظرون لأنفسهم كأشخاص كثيري الانشغال ـ ما نطلق عليه مصطلح الذهنية المشغولة ـ كانوا أكثر قدرة على التحكم بأدائهم إذا ما اضطروا إلى القيام بخيارات. ويعد ذلك بمنزلة نتيجة مباشرة لتعزيز الشعور بأهمية الذات التي يتميز بها الأشخاص كثيرو الانشغال. يتوافق ذلك مع أبحاث سابقة توصلت لنتيجة مفادها: أن تعزيز الطريقة التي ننظر بها لأنفسنا يساعدنا في اتخاذ خيارات تصب في مصلحتنا على المدى الطويل، عوضا عن تلك التي تمنحنا متعة وقتية. كما تقود الأشخاص للاعتقاد بأنهم يستطيعون التحكم بأنفسهم بشكل أكبر، ما يعزز من قدرتهم على اتخاذ خيارات صحيحة.
درس عديد من الباحثين قضية الانشغال من خلال منظور الوقت وكانت النتائج متسقة إلى حد كبير: عندما يتوجب على الأشخاص اتخاذ قرارات في وقت ضيق، فإن حالة القلق المترتبة عن ذلك تقودهم إلى التنازل عن الدوافع التي تحركهم، مقابل خيارات أكثر مثالية.
لم تنظر الدراسة التي قمنا بها في عامل الوقت. وركزنا عوضا عن ذلك على كيفية تأثر آلية صنع القرار في حال تذكير الأشخاص بمدى انشغالهم، دون الإشارة إلى الوقت كعامل ضغط. عرضنا المشاركين خلال بعض الدراسات لرسائل تشير ضمنيا لكونهم أشخاصا مشغولين. وفي اختبارات أخرى طلبنا من المشاركين كتابة لائحة بالأشياء التي كانت تشغلهم في الآونة الأخيرة.
كان المشاركون في ذلك الإطار منفتحين بشكل أكبر على ممارسة التحكم في الذات في حالات عدة. على سبيل المثال، تراجعت رغبتهم في شراء الأطعمة من أماكن تعرض مواد تشبع رغبتهم. وزادت احتمالية تفضيلهم لقراءة قسم الأخبار في الصحيفة عوضا عن قسم المنوعات. كما عززت من رغبتهم في ممارسة أنشطة رياضية عوضا عن الاسترخاء بعد الظهيرة. وأشاروا إلى أنهم سيوفرون نسبة أكبر من دخلهم لصالح التقاعد. وأبدى الطلاب رغبة أكبر للعمل من أجل مستقبلهم الدراسي عوضا عن أخذ يوم راحة. رجحت كفة الفضيلة في كل مرة.
أجرينا بحوثا إضافية لإثبات أن الشعور بالأهمية كان السبب الأساس خلف تلك الخيارات. طلبنا من المشاركين في دراسة معينة الإشارة إلى عدد الأشخاص من محيطهم ممن ينظرون إليهم على أنهم أشخاص مهمون. طلب من بعض المشاركين اختيار رقم بين 1 و5، بشكل يسهل عليهم الوصول لعدد أكبر وبالتالي يمنحهم ذلك شعورا بالرضا. اختارت أغلبية هذه المجموعة "بنسبة 65 في المائة" الحصول على تفاحة عوضا عن قطعة حلوى كمكافأة على المشاركة في الدراسة.
طلبنا من باقي المشاركين اختيار رقم بين 10 و50. وهو مقياس أكثر صرامة تم تصميمه ليثبط من عزيمة المشاركين وشعورهم بالأهمية. واختارت الأغلبية في هذه المجموعة "58 في المائة" قطعة الحلوى كمكافأة. وبدأت قدرة المشاركين على التحكم بأنفسهم بالتراجع عندما لم يشعروا بأهمية كبيرة في النهاية.
كانت الدراسة الأخيرة عبارة عن تجربة ميدانية، أجريناها على مدى ثلاثة أسابيع في مقصف لجامعة كبرى على الساحل الغربي للولايات المتحدة. وضعنا في بعض الأيام لائحة عند مدخل الكافيتريا بالقرب من قسم الطعام، مكتوب عليها عبارة: "من الجيد أن أذهب إلى الطلاب المشغولين". وفي بعض الأيام لم نضع لافتة أو كتبنا عبارة: "من الجيد أن أذهب لطلاب الصيف".
أدت الرسائل التي عبرت عن الانشغال إلى خفض مبيعات الأطعمة غير الصحية. وفي المتوسط، تم بيع 107 مواد غذائية غير صحية مقابل 149 و154 صنفا عند عدم وضعنا للافتة أو الإشارة إلى طلاب الصيف. أثرت العقلية المنشغلة بشكل خاص على مبيعات الأصناف التي تحتوي على سعرات حرارية كبيرة.
يجب أن يتنبه الأشخاص العاملون بالتسويق لمسألة إثارة عنصر الانشغال في الحملات الدعائية، فقد يتأتى عنه نتائج عكسية في حال نظر المستهلكين إلى المنتج أو العلامة التجارية على أنها غير صحية. في النهاية، تذكير الأشخاص أنهم مشغولون يوقظ فيهم الحاجة لاتخاذ خيارات تميل إلى المثالية وليس الخيارات السليمة التي نبتغيها.
تستطيع الشركات التي ترتكز علامتها التجارية على عامل الصحة أو تعزيز التحكم بالنفس، الاستفادة من ذلك عن طريق التركيز على عنصر الانشغال لعملائها المحتملين. والمثال الوارد عن سلسلة مراكز لياقة خير مثال على ذلك.
بالطبع، يمكن أن تكون بعض المنتجات مؤطرة على أنها تشبع الرغبات أو صحية. سيكون من الأسلم في هذه الحالة التركيز على الإطار الصحي عند مخاطبة الإعلان للأشخاص كثيري الانشغال.
وأخيرا، يتشارك المستهلكون وصانعو السياسات في المصلحة، من خلال إيجاد طرق للتحكم بالنفس بشكل أكبر. فالإفراط بالأكل وهدر الطعام مجالان واسعان يتبادران للأذهان. ترى الدراسة التي أجريناها، أن تذكير الأشخاص ببساطة بمدى انشغالهم ـ وهي حالة عامة في وقتنا هذا، لكن ضمن سياقات ـ في سياقات تخلو فعليا من أزمة وقت، قد يكون عاملا محفزا على الفضيلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي