«اعتزال الكتابة» .. أرحم للمبدعمن اجترار الذات
عادة ما ترتبط فكرة الاعتزال في الأذهان بعالم الرياضيين أو الفنانين، بعد بلوغ الدرجات العلا في النجومية، أو جراء التقدم في العمر مع ما يعنيه ذلك من عجز بدني، قد يقف حائلا دون مزيد من التألق والعطاء. وقلما تطرح في مجال الثقافة والأدب، بدعوى أن مغامرة الكتابة تراكمية يحتفظ الزمن بتأثيره فيها؛ فالتقدم في العمر يمنح صاحبه الأسبقية والأقدمية، وشرعية تاريخية في عالم الإبداع. بيد أن هذا الادعاء يبقى نسبيا إلى حد كبير؛ فشرط الكبر في العمر لا يضمن التميز، ولا يعِد بالأصالة في الإبداع.
لا شك أن فكرة الاعتزال قاسية، إلا أنها قد تكون المنفذ الوحيد للكاتب، كما الرياضي والفنان، من أجل الاحتفاظ بأمجاده وتاريخه، وتفادي الوقوع في سقطة قد تدمر كل ما حققه من تراكم طوال مسار عمره. لكن الغموض يبقى مكتنفا حدود الفصل ما بين شرط الصمت الذي يكون رديف موهبة الإبداع من حين لآخر، وحالة نضوب نهر الإبداع التي توجب الاعتزال.
يعتبر البعض أن فكرة الاعتزال مستحيلة في المجال الفكري، لأن الإبداع وليد التجربة الإنسانية، لا يعلم المبدع نفسه متى يحين موعده. وعلى فرض أنه توقف أو خمُد أحيانا، فذلك بحسبهم أشبه ما يكون باستراحة محارب استعدادا لانطلاقة أخرى، فعطاء المبدع لا يجف ما دامت ذاته في تفاعل مع تجارب الوجود الإنساني.
فيما يرى آخرون، أن عديدا من الكتاب أصبحوا "أدباء العلاقات العامة" فقط، في حالة أقرب ما تكون إلى استغلال "الاسم التجاري" للترويج للسخافة والرداءة والتفاهة. فالكتابة لدى هؤلاء غاية لذاتها، على الرغم من إدراكهم ووعيهم بأن لا جديد باستطاعتهم تقديمه للقراء.
بين هذا الموقف وذاك أود التنبيه إلى أن الاعتزال قد تؤطره فلسفة معينة، ليتحول بذلك من مجرد ثمرة سوداء لفشل في الإبداع وعجز عنه، بإعلان بلوغ الحافة وأرذل العمر حتى قبل الأوان، إلى موقف صارخ من فعل الكتابة ذاتها، وتقدير شخصي من المبدع لغواية الكتابة التي مارسها ردحا من الزمن. وهذا ما عبر عنه أحدهم بقوله: «ما عساه يعني اعتزال الكتابة غير تحرير الكتابة من أوهامها. الخروج من الكتابة لا يعني الخروج من ألمها ومتعتها في آن، الخروج من الكتابة يعني السقوط في جحيم لغتها الأخرى، في هامش صمتها المرعب».
تبقى العزلة بعيدا عن الخلق أحيانا، آخر الخيارات أمام من أضحت الكتابة ملاذهم ومتنفسهم، ما يجعل هذا القرار ضربا من ضروب الانتحار البطيء. وعن تلك الحالة يقول فيليب روث؛ الملقب باليهودي الحزين بعد نصف قرن من الإبداع تاركا نحو 30 عملا روائيا، في تعبير مدهش عقب قراره اعتزال الكتابة ثلاث سنوات قبل رحيله شهر مايو (أيار) المنصرم: «أصعب شيء في الحياة أن نكسر الصمت بالكلمات، ثمّ نكسر الكلمات بالصمت».
تظل حادثة اعتزال الأمريكي جيروم ديفيد سالينجر أشهر وأغرب اعتزال أدبي في القرن العشرين، بسبب الاعتكاف الطوعي لأزيد من 40 عاما بعد النجاح المدوي لروايته اليتيمة "الحارس في حقل الشوفان" (1951). نال الروائي شهرته بضربة واحدة، بعدما بلغت روايته حدودا متطرفة، بوصفها بـ"الإنجيل الملهم للشباب الأمريكي الغاضب والمتمرد على أعراف السلطة والنفاق والزيف الاجتماعي".
أنهى الموت عزلة سالينجر بداية عام 2010، تاركا برحيله أكثر من علامة استفهام حول العلة وراء فكرة الاعتزال؛ هل أثقل النجاح المذهل كاهله، فاختار الانعزال وهو في أول مشواره الأدبي؟ أم أنه الخوف من فشل الكتاب التالي؟ لا أحد يستطيع أن يقدم جوابا قطعيا عن ذلك. ولم يصرح قط بشيء يمكن أن يفسر سبب اعتزاله، وحتى المخرج الأمريكي راني سترونج (Danny Strong) لم يقدم إجابة هذا السؤال في فيلمه "Rebel in the Rye "2017 عن حياة هذا الكاتب.
عربيا، يعد الروائي المصري يحيى حقي أشهر المبدعين الذين قرروا اعتزال الكتابة رغم امتلاكهم للموهبة، وبرر سبب اعتزاله بقوله: «لم يعد لديه ما يضيفه». ولعل حسه النقدي أعانه على تحديد الوقت الملائم لهذا القرار الصعب. فيما اعتزل عادل كامل صاحب موهبة فذة، وأحد أبرز أدباء الجيل الأول للرواية العربية، الذي وصفه نجيب محفوظ بأنه "في طليعة كتاب جيلنا بغير جدال"، بعدما رفض مجمع اللغة العربية منحه جائزة لروايته "مليم أكبر" (1944).
داء الاعتزال امتد ليصيب الشعراء أيضا، وفي مقدمتهم الشاعر المصري عبد الرحمن شكري، أحد الأعمدة الثلاثة لمدرسة الديوان؛ إلى جانب كل من المازني والعقاد، التي وضعت مفهوما جديدا للشعر في أوائل القرن الماضي. بعد الظلم الذي لقيه، بمنعه من الترقي في وظيفته، والتحريض ضده بسبب قصيدته "أقوام بادوا"، حتى دفعت لخروجه على المعاش.
عانى شكري من ظلم شديد، دفعه إلى الكفر بعدالة الناس، فأقدم في خطوة مؤلمة على حرق مؤلفاته ودواوينه، قبل أن يعتزل الكتابة والناس والحياة، ثم يصاب بالشلل، حتى وفاته أواخر عام 1958.
لكن أغرب قصة اعتزال في الساحة الثقافية العربية ستظل من نصيب الشاعر المصري الراحل إبراهيم ناجي؛ صاحب قصيدة "الأطلال" الشهيرة، حيث اعتزل كتابة الشعر بسبب سطوة النقد وقسوته، إذ قرر اعتزال الشعر، بعد ديوانه الأول "وراء الغمام" (1934) الذي وصفه طه حسين بشعر الصالونات، الذي لا يحتمل أن يخرج إلى الخلاء فيأخذه البرد من جوانبه، وقد أزعجه هذا النقد فسافر إلى لندن، وهناك دهسته سيارة عابرة فنقل إلى مستشفى، وعاشت هذه المحنة في أعماقه فترة طويلة، قبل أن يكتب قصيدة عودته، بعد عشر سنوات في ديوانه الثاني "ليالي القاهرة" (1944).
قياس على مقولة "تعدد الأسباب والموت واحد" نقول بشأن الاعتزال "تعددت الأسباب والاعتزال واحد"، لكن يبقى أفضل اعتزال ذاك الذي يدركه المبدع من تلقاء نفسه، بحسه النقدي وفطرته. وهو ما يفتقده كُتَّاب كثر في عصرنا الراهن، فيكررون أنفسهم دون وعي، أو تأخذ كتاباتهم منحنى هابطا دون أن يجدوا من ينبههم لما هم بصدده.