نقائص تهدد فرص بقاء البشر في القرن الـ 21
إذا كنت تشعر بخيبة أمل بشأن حالة العالم، فمن الأفضل ألا تقرأ كتاب "21 درسا للقرن الحادي والعشرين"، وهو أحدث كتاب للنجم الفكري يوفال نوح هراري.
في هذا الكتاب تُعلَن وفاة القصة الليبرالية التي ألهمت وعملت على استمرارية الغرب لأكثر من قرن من الزمان، وهي تتبع إلقاء القصص الفاشية والشيوعية في مزبلة التاريخ.
علاوة على ذلك، نواجه إمكانية حدوث ثلاث كوارث تلوح في الأفق: التدمير البيئي، والتعطيل التكنولوجي، والتباعد البيولوجي للجنس البشري.
إذا تمكنا بطريقة ما من منع الاحترار العالمي الذي لا رجعة فيه، فإن هناك احتمالا كبيرا بأن دمج تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية، كما يشير هراري، قد يجعل معظمنا غير ذي أهمية اقتصادية ولا حيلة له من الناحية السياسية.
بل إنه حتى ربما يضع موضع التساؤل ما إذا كان ينبغي لنا أن نستمر في الحديث عن الإنسان العاقل باعتباره نوعًا منفردًا، بعد مسيرة ناجحة إلى حد كبير على مدار 70 ألف عام، التي تحدث عنها في كتابه السابق "الإنسان العاقل: تاريخ موجز للبشرية".
قد يكون التكنوقراطيون من الأغنياء لدينا في يوم من الأيام قادرين على تدليع أنفسهم في متعة من الهندسة الحيوية بسهولة مثل حقن البوتوكس اليوم، وإيجاد البشر الخارقين توخياً لوهم الخلود أو الجري خلف سراب التغلب على الموت. "إذا أصبحت البيانات مركزة في عدد قليل جداً من الأيدي، فإن الجنس البشري سينقسم إلى أنواع مختلفة"، كما يؤكد الكاتب بنشوة.
أصبحت مثل هذه التكهنات الكبيرة والمثيرة للتفكر، التي سخر منها أحيانًا مختصو المجال، هي عدة الصناعة بالنسبة إلى هراري. لقد أكسبته النجومية الأدبية بين الجمهور والمشجعين بين حشد "دافوس"، كمفكر نلجأ إليه في أوقاتنا المحيرة.
عبقرية هراري في تجميع الحقائق المهمة من مختلف التخصصات، بدءًا من التاريخ القديم إلى علم الأعصاب إلى الفلسفة إلى الذكاء الاصطناعي، مكنته من الاستجابة لتدافع الناس إلى فهم من أين أتينا وإلى أين نتجه. لقد ترجمت كتبه إلى 45 لغة وبيع منها أكثر من 12 مليون نسخة.
الجولة التاريخية
على الرغم من الجولة التاريخية الطويلة، مع هراري فإن الأمر يستحق دائماً التحقق من الأمور الدقيقة بين السطور. يقول في مرحلة من كتابه، ناصحا إيانا بأنه لا داعي للذعر حتى الآن "من الواضح أن معظم هذا هو مجرد تكهنات. الذعر هو شكل من أشكال الغطرسة"، كما يضيف، محذراً من أي معتقدات تدل على الزهو من التي يمكننا التنبؤ بها في المستقبل، تماما.
عند إجراء فحص دقيق، يصبح الجدول الزمني من هراري أيضًا متزعزعًا بشكل مثير للريبة. بعض هذه التطورات قد تحدث فقط بعد قرن أو اثنين، هذا إن حدثت أصلا.
ثم مرة أخرى، بطبيعة الحال، قد تأخذ الأحداث مسارًا مختلفًا وغير متوقع تمامًا، مثل نزوات كليو، إلهة التاريخ في الأساطير اليونانية.
على الرغم من أن كتاب "21 درسًا" مضاء بومضات من المغامرة الفكرية والحيوية الأدبية، إلا أن هذا الكتاب ربما يكون أقل الكتب إنارة من بين الكتب الثلاثة التي كتبها هراري، محاضر التاريخ في القدس.
كثير من أفكاره الكبيرة ستكون مألوفة لدى القراء المخلصين لملحمتيه الأكثر مبيعاً، "الإنسان العاقل" و"الإنسان الإله". موزعا حجته على ما يصل إلى 21 فصلا في كتابه الأخير – مغطيا بذلك مواضيع متنوعة مثل خيبة الأمل، والحرب، والهجرة، والخالق، وما بعد الحقيقة، والخيال العلمي والتأمل – فهذا يعني أيضًا أن قلة من الأفكار تم استكشافها بالكامل ولم يتم تطوير أي مواضيع بشكل كافٍ.
مع ذلك، فإن الألعاب النارية الفكرية لهراري مسلية إلى حد كبير، حيث يشن هجمات أخرى على الأمور التي تشكل البعبع بالنسبة إليه: القومية والشعبية والدين.
باندفاع كبير، يخوض في النقاش حول الأخبار الكاذبة. في كتاب الإنسان العاقل، شرح هراري كيف يتم ربط المجتمع معًا بكائنات مختلقة، مثل المال والأمة والدين. وهذا يعطيه منظورا متفائلا نوعا ما حول الجدل الساخن الذي يدور الآن حول الأخبار الكاذبة.
يقول "عندما يصِّدق ألف شخص قصة مختلقة لمدة شهر - هذه أخبار كاذبة. عندما يؤمن مليار شخص بهذه القصة لمدة ألف سنة – قد تصبح تلك من باب العقيدة".
ومع إدراكه التهجم الخطير الذي تتسم به هذه الحجة، إلا أنه يضيف بسرعة أن "القصص الخيالية ليست بالضرورة عديمة القيمة أو ضارة". من خلال تشجيع الجانب الطيب في طبائعنا، يمكنها أيضًا أن تكون جميلة وملهمة.
ولا ينكر هراري في النهاية أن الأخبار الكاذبة تمثل مشكلة، حيث يشجعنا جميعًا على بذل جهد للكشف عن تحيزنا والتحقق من مصادر معلوماتنا. ولديه قاعدتان قائمتان على التجربة العملية، هما: ادفع مالا جيدا للحصول على معلومات موثوق بها "فكرة نأمل أن يقبل بها قراء صحيفة فاينانشيال تايمز"؛ واقرأ البحوث العلمية ذات الصلة.
كما يحث العلماء على أن يرفعوا أصواتهم وأن يصبحوا أكثر إبداعًا في حقن معارفهم في المجال العام. وكما يكتب "من منظور سياسي، قيمة فيلم الخيال العلمي الجيد هي أكبر بكثير من مقال في مجلة "العلوم" أو مجلة "الطبيعة".
ليس المتعصبون الدينيون هم الذين يجدون أنفسهم في مرمى نيران هراري، فحسب، فهو شرس بالمثل في هجماته على القوميين المتطرفين بشكل عام وعلى البريطانيين المؤيدين الخروج من الاتحاد الأوروبي بشكل خاص.
ويرفض فكرة أن القومية هي بأي حال جزء طبيعي وأبدي من النفس البشرية. التركيز المفرط على الأمة يجعل من الصعوبة بمكان التصدي للتحديات العالمية المشتركة التي نواجهها جميعا، مثل التغير المناخي الضار.
ومع اعترافه بأن الهوية الوطنية يمكن أن تعمل في الغالب كغراء مجتمعي، إلا أنه يقترح أن القومية يمكن أن تكون في بعض الأحيان "انغماسا انهزاميا" قد يقضي على البشرية ويدفع "كامل المحيط الحيوي" إلى الكارثة.
يتهم هراري الجمهور البريطاني، الذي صوت لمصلحة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بتعريض البناء السياسي الأوروبي القيّم للخطر الذي ساعد على إنهاء قرون من الصراع الدامي.
عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عقدت المشكلة فحسب، لا أكثر ولا أقل. يبدو أن مايكل جوف، المفكر المفترض لحملة البريكست، قد داس على بعض أفكار هراري الحساسة بشكل خاص، ويتعرض للسخرية من إعطاء الأولوية "لمشاعره" الخاصة وتفضيلها على الفكر العقلاني.
لعل الأجزاء الأكثر قوة في الكتاب تتعلق بمناقشة هراري اقتصاد البيانات والأتمتة المتزايدة لحياتنا. في استعارة لافتة للنظر، يشير إلى أننا كمستهلكين رقميين نعد ساذجين مثل الأمريكيين الأصليين، الذين يتاجرون بأرضنا القيمة مع القوات الأجنبية الغازية، مقابل عدة قطع من الحلي الرخيصة. وهو يكتب قائلا "إن الملكية والقانون التنظيمي للبيانات كما قد يكون أهم مسألة سياسية في عصرنا".
الكميات الهائلة من البيانات التي تعمل على هضمها شركات التكنولوجيا حاليًا تمنحها رؤى متزايدة باستمرار حول عاداتنا وأفكارنا وحياتنا. يتفقد الأمريكيون هواتفهم الذكية ثمانية مليارات مرة في اليوم، بحيث يُعطون البيانات مع كل تفاعل يقومون به.
قدرة الخوارزميات الذكية على التغذي على كل هذه البيانات تعني أنها ستتنبأ بشكل جيد أكثر فأكثر بحياتنا واتخاذ قرارات تخصنا بشكل أفضل. لن يكون الأمر "الإنسان مقابل الآلة" بقدر ما هو "الفرد بطيء الحركة مقابل الشبكة فائقة السرعة".
نحن البشر ربما نعزي أنفسنا بأننا سنكون إلى الأبد السادة في مجالات الأخلاق والمشاعر. هراري يشك في ذلك أيضًا. يمكن تزويد سياراتنا ذاتية القيادة بإعدادات أخلاقية قابلة للتعديل، مستمدة من أعمال جميع فلاسفتنا العظماء، في حين إن أجهزة الاستشعار البيومترية تفسر مشاعرنا بدقة أكبر مما نستطيع.
بمجرد أن تفهمنا أجهزة الكمبيوتر بشكل أفضل مما نفهم أنفسنا، ما الذي يعنيه هذا لاختيارنا للمهن أو أحبائنا أو قرارات التصويت؟ يتصور هراري عالماً تتشاور فيه آنا كارنينا مع خوارزمية موقع فيسبوك، قبل أن تقرر ما إذا كانت ستقع في غرام الكونت فرونسكي "وهو ما يؤدي إلى انتحارها في نهاية الرواية"، وحيث تحدد أنظمة الذكاء الاصطناعي معايير صنع القرار السياسي لدينا. لن تصبح ديمقراطياتنا أكثر من مجرد "عرض عرائس عاطفي"، "قد يظن البعض أننا وصلنا إلى هذه المرحلة منذ الآن".
بطبيعة الحال، يستكشف هراري الحواف الخارجية لمثل هذه المناقشات ويصل إلى بعض الاستنتاجات التأملية الجامحة حول مستقبل الذكاء الاصطناعي.
ويقول "بعد أربعة مليارات سنة من الحياة العضوية التي تتطور بالانتقاء الطبيعي، فإن العلم يشرع في عصر الحياة غير العضوية التي يشكلها التصميم الذكي. في هذه العملية، فإن الإنسان العاقل نفسه سيختفي على الأرجح".
بعد أن استثار الماضي والمستقبل في كتابين سابقين له، يخبرنا هراري أن طموحه في كتاب 21 درسًا هو التركيز على "هنا والآن". على أن آفاقه تبدو محدودة بشكل غريب، ولم يتطرق إلا بالنزر اليسير إلى آسيا وإفريقيا، حيث تعيش معظم البشرية، حياة قصيرة، في الغالب الأعم.
واحدة من أهم القصص في القرن الـ 21 هي بالتأكيد كيف تستعيد الصين دورها كأكبر اقتصاد في العالم، وهو موقع ربما احتفظت به لمدة 18 قرنا من القرون الـ 20 الماضية.
هناك إجماع جديد حول بكين، الذي يجمع بين السياسات السلطوية، والاقتصاد الرأسمالي "في الغالب" والحيوية التكنولوجية، يصبح أكثر انتشارًا وشعبية في جميع أنحاء العالم.
حتى الرئيس الحالي للولايات المتحدة يبدو مفتونًا تمامًا بهذا النموذج، على الرغم من هجومه الشديد على الصين لأسباب تقوم على التعصب القومي.
قد يبدو من الغريب بالتأكيد أن هراري مهووس جدا بالغرب في حين يتجاهل في الغالب المشرق. سيكون من الممتع قراءة مزيد من آراء هراري حول التطور المحتمل للصين والهند وجنوب شرق آسيا وإفريقيا.
وعلى حد تعبيره المثير للإغراء "اليوم، قلة من الناس هي التي ستؤكد بثقة أن الحزب الشيوعي الصيني، يقف على الجانب الخاسر من التاريخ".
ينتهي هذا الكتاب بملاحظة شخصية مثيرة، حيث يتأمل هراري قصة حياته الخاصة، وما يعنيه أن يكون غير سوي مثلاً أو ما يماثل يهوذا في عالمنا المعاصر. كان أحد عوامل خلاصه الشخصية العظيمة هو اكتشاف تأمل "فيباسانا" كآلية مفيدة لتركيز حياته.
يخبرنا أنه يتأمل لمدة ساعتين كل يوم ويعتكف لمدة شهر أو اثنين كل عام. في الوقت الحاضر، يبقى الوعي واحداً من أعظم ألغاز الكون، ويستحق الاستكشاف الشخصي والمهني.
إذا كان هناك موضوع يسري في جميع كتابات هراري، فمن المؤكد أنه يمكن تلخيصه من خلال بيانه الذي يقول فيه "الأسئلة التي لا تستطيع الإجابة عنها هي عادة أفضل كثيرا من الأجوبة التي لا تستطيع أن تتساءل عنها".
أو كما يختتم كتابه، يجدر بنا أن نحاول أن نفهم عقولنا بصورة أوضح قبل أن تعمل الخوارزميات على تشكيل مواقفنا بالنيابة عنا.
الكتاب
21 درسا للقرن الحادي والعشرين
تأليف: يوفال نوح هراري
الناشر: جوناثان كيب
السعر: 18.99 جنيه استرليني
الحجم: 368 صفحة