النظام الإمبراطوري .. اندثار بقصد التجدد

النظام الإمبراطوري .. اندثار بقصد التجدد
النظام الإمبراطوري .. اندثار بقصد التجدد

ساد الاعتقاد لأمد طويل، بين الخبراء في الأنظمة السياسية المقارنة، بأن زمن الإمبراطوريات قد ولى وانتهى إلى الأبد، وأن فصلا مُهما من تاريخ أهم الأشكال السياسية في مسار تطور الاجتماع الإنساني قد أغلق، وإن اختلف بشأن الحدث المرجعي لواقعة نهاية زمن الإمبراطوريات، بين من يعيده لزمن الأربعينيات مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ومن يرى ذلك في انهيار إمبراطورية الاتحاد السوفييتي.
استعاد الموضوع حيويته في السنوات الأخيرة، واسترعى اهتمام الباحثين في الساحة الأكاديمية الغربية، فكتب الفرنسي تييري مينسيي thierry ménissier في محاولة تأصيلية منه كتابا بعنوان "فكرة الإمبراطورية في الفكر السياسي والتاريخي والقانوني والفلسفي" 2006. فيما تولى الأكاديمي الأسترالي بيرت بودن brett bowden القيام بحفريات في التاريخ من خلال كتاب "إمبراطورية الحضارة: تطور الفكرة الإمبراطورية" 2009، ثم أتبعه كتابا آخر؛ بعد أربع سنوات فقط، بعنوان "الحضارة والحرب" 2013. فيما تولى المؤرخان الفرنسيان تييري لونز thierry lentz وباتريك جونيفي patrice gueniffey على مدار 450 صفحة البحث في "نهاية الإمبراطوريات" 2016.
يقع إجماع بين مختلف الباحثين، ممن كتبوا في وعن "الإمبراطوريات"، بشأن جملة من العناصر التي نوردها تباعا كما يلي:
أولا؛ صعوبة وعسر إقامة "نظرية عامة"، تفسر الأصول وتعلل الفصول الخاصة بالإمبراطورية كنظام سياسي. وذلك عائد إلى تميز وتفرد التجربة الخاصة بكل إمبراطورية على حدة، فمن إمبراطورية إقليمية إلى إمبراطورية البراري وصولا إلى إمبراطورية البحار.
ثانيا؛ زوال الإمبراطورية حقيقة تاريخية دفعت بأحد الباحثين إلى وضع قاعدة تقول إن: "من شأن الإمبراطوريات أن تغدو وأن تروح". فيما ذهب المؤرخ والأكاديمي الفرنسي جون باتيست ديروسيل jean baptiste duroselle حد وضع كتاب بعنوان "ما من إمبراطورية إلا وشأنها أن تبيد" 1981.
ثالثا؛ ما يشكل سمة دوام الإمبراطورية في مختلف التجارب هو قدرتها على تحقيق شرطين أساسين؛ أحدهما إطلاق قوى التدمير لسحق العدو، والآخر إعادة إنشاء العالم نشأة جديدة وفق التصور الذي يضعه قادة هذه الإمبراطورية.
في حين تظل باقي العناصر محط تباين واختلاف في وجهات النظر، وفق ما يفرضه السياق التاريخي الخاص بكل تجربة إمبراطورية على حدة.
فمن حيث العنصر الزمني، وإن كان حاسما، يبقى من الصعب تقدير حياة الإمبراطورية؛ إذ لم تدم إمبراطورية الإسكندر ونابليون إلا بضع سنين، وإمبراطورية الأنكا والأزتيك عمرت قرنا وزيادة، والشيء نفسه بالنسبة لإمبراطورية شارلمان. فيما تضاعف القرن فأضحى ثلاثة قرون مع الإمبراطورية الإسبانية، وزاد بقرن آخر في مع الإمبراطورية العثمانية، وبقرن آخر ليصل إلى خمسة مع الرومان. وكانت ثمانية قرون مديدة هي عمر الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة، ونحو ألف سنة بالنسبة إلى الإمبراطورية البيزنطية، وزهاء 1200 عام كان عمر الإمبراطوريات الصينية، التي قيل إنها عاشت تسع حيوات.
تختلف الإمبراطوريات كذلك في حيثيات تواريها، وأسباب اختفائها. فقد يكون ذلك إثر حروب دموية، كما يمكن أن يتم في فترات السلم، لا فرق في ذلك؛ فالنهاية واحدة مأساوية أو سلمية. وقد تأتي بعد طول احتضار بسبب الشيخوخة، كما حدث مع الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة والإمبراطورية العثمانية. كما يمكن أن تكون علة الاحتضار عائدة إلى أزمة توريث خانقة، مثلما حدث مع إمبراطورية شارلمان. وقد يحدث ذلك عقب هزيمة عسكرية نكراء، كما حدث للإمبراطورية النمساوية الهنغارية وللإمبراطورية الروسية، وقد يكون الأمر عائد إلى تفكك داخلي على نحو ما وقع لكل من الإمبراطورية المغولية والاتحاد السوفييتي حديثا.
حدث في بعض الأحيان أن تدخل عوامل، بلا أهمية في تجارب أخرى، كما هو الحال مع العنصر الديمغرافي في التجربة الإسبانية والإنجليزية وكذا الفرنسية؛ حيث فقدت هذه الدول حيويتها الديمغرافية حتى تغذي هي مقدرتها وترفد قوتها، بينما البلاد المستعمرة لها بلغت من دينامية الساكنة بحيث طمحت إلى استقلال بدا لها أكثر واقعية، كلما أبانت الإمبراطوريات المستعمِرة عن نزوع نحو الأفول.
هذا دون أن نذكر ما للعوامل المادية من أثر على انهيار الإمبراطوريات، فعادة ما تنتهي الإمبراطورية إلى السقوط سريعا بسبب حاجاتها المالية، ولا سيما حين تتطلب الحرب مكوسا تتجاوز حدود المحتمل. أو حين تنقطع أوصال سبل التواصل البري أو البحري أو اللساني، على نحو ما حدث لإمبراطورية شارلمان الممتدة الأرجاء، ولإمبراطورية جانكيز خان الدائمة الترحال، وللإمبراطورية الإسبانية المشتتة على ثلاث قارات "أوروبا وإفريقيا وأمريكا".
التباين بين الإمبراطوريات قائم أيضا لجهة الشكل والنظام المعتمد، ما بين إمبراطورية تنزع مؤسساتها نحو التوحد شأن الإمبراطوريتين الرومانية والنابليونية، وإلى إمبراطوريات تسعى إلى اعتماد نظام الكونفدرالية؛ بلغة علم السياسية اليوم، نظير إمبراطورية الأزتيك، وإلى إمبراطوريات تنحو نحو نظام أكثر مرونة وتراخيا وأقل صرامة، وهذا حال الإمبراطورية النمساوية الهنجارية، وإلى أخرى أشد تعقيدا على نحو الإمبراطورية العثمانية.
يصعب إذن، واستنادا إلى ما سبق، الإقرار بأن الإمبراطورية ستختفي من التجارب السياسية للاجتماع الإنساني، فهي في أبسط تعريف إجرائي للمفهوم "ما يترتب عن هيمنة كيان سياسي معين على عدد من الكيانات، سواء أكانت سياسية أم لا، من دول وأقاليم وقبائل وشعوب وثقافات..."، وهذا المعنى قابل للتحقق في أي وقت متى توافرت شروطه، ربما ليس بالصيغ التاريخية التي نعرفها، لكن بصيغ جديدة تؤسس لأنماط جديدة من الإمبراطوريات، فـ"الشيء الوحيد الذي يعلمنا التاريخ إياه هو أنه لا يمكنك أن تكون أبدا موقنا بأي شيء ومتأكدا منه".

الأكثر قراءة