الصين تخطط لنقل عاصمة التقنية العالمية إلى الشرق
تيم بيرنز رمز غير متوقع لمحاولة الصين بأن تُصبح القوة العظمى للتكنولوجيا الفائقة في العالم. أولا هو أسترالي، لكن قرار هذا المختص في الفيزياء الكمومية البالغ من العمر 39 عاماً باستبدال شنغهاي بنيويورك، لنشر أحد أبحاثه يفسّر نوعاً ما إلى أي مدى ستذهب بكين في جهودها الرامية لقلب النظام العالمي.
يقول بيرنز: "الفيزياء الكمومية قوية جداً في الصين. الشركات الكُبرى فيها جيدة بقدر أي مكان في العالم.. وتقوم ببعض الأشياء المدهشة".
يعمل بيرنز على تطوير تكنولوجيات جديدة ستُساعد في نهاية المطاف، كما يأمل، على تقديم الكأس المقدسة للقطاع - جهاز كمبيوتر يعمل بالفيزياء الكمومية.
منصبه كأستاذ مُساعد للفيزياء في جامعة نيويورك الموجودة في شنغهاي هو نتيجة حملة توظيف عالمية لتعيين عشرة آلاف شخص من ألمع العقول في العالم.
يُشكّل التوظيف جزءا من استراتيجية أوسع لبناء القدرات التكنولوجية في الصين جنباً إلى جنب مع الجهود لإعادة هيكلة سياستها الصناعية من خلال مُخطط معروف باسم صُنع في الصين 2025.
تم ضخ مليارات الدولارات في الأبحاث وعمليات الاستحواذ على أصول خارجية، الأمر الذي أثار قلق المنافسين العالميين.
في العامين الماضيين وحدهما، أعلنت الصين عن صفقات اندماج واستحواذ تزيد قيمتها على 110 مليارات دولار في مجال التكنولوجيا، وذلك وفقاً لوكالة ديلوجيك، ما أثار مخاوف الأمن القومي بسبب دور بكين في بعض الصفقات.
خطة صُنع في الصين وصفها روبرت أتكينسون، رئيس مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار، في رسالة إلى الكونجرس الأمريكي في كانون الثاني (يناير) الماضي، بأنها "استراتيجية عنيفة بأي وسيلة تنطوي على التلاعب المتسلسل في السوق والسرقة المتعمدة والنقل الإجباري للمعرفة الأمريكية".
البرامج المدعومة من الدولة في الصين في مجال العلوم والتكنولوجيا نشأت من حملة لتحديث الجيش والبحرية فيها لمواكبة الولايات المتحدة وروسيا، وقد اكتسبت ميلا أكثر تحضّراً لوضع الصين في طليعة مجالات منها الذكاء الاصطناعي والأدوية الحيوية والسيارات الكهربائية.
في السنة الماضية حدد الرئيس تشي جين بينج الأهداف وراء الإنفاق، واصفاً العلوم والتكنولوجيا بأنها "ساحات القتال الرئيسة للاقتصاد". تعزّزت هذه الأولويات أكثر في دورة المجلس الوطني لنواب الشعب، البرلمان الصيني، هذا الشهر.
إذا نجحت، يُمكن أن تشكل الخطة تحوّلا جوهريا من اقتصاد اكتسب سمعة كمُصنّع مُقلّد إلى اقتصاد يُحدد الوتيرة.
الصين لديها شكل ما. شركات التكنولوجيا الثلاثة فيها BAT، بايدو وعلي بابا وتينسينت حسّنت النماذج التي نسَخَتْها تلك الشركات من جوجل وإيباي وفيسبوك، لكن هدفها لإيجاد أبطال وطنيين في مجالات مثل أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي تُمثّل خطوة أكبر بكثير.
معهد ميركاتور للدراسات الصينية، المؤسسة الفكرية القائمة في برلين، وصف الخطة في العام الماضي بأنها "بناء لبنات برنامج سياسي شامل، مُضيفاً: "على المدى الطويل، تُريد الصين الحصول على السيطرة على معظم الشرائح الأكثر ربحية في سلاسل التوريد العالمية وشبكات الإنتاج".
دعوة الرئيس تشي الواضحة هي اعتراف بأن القدرة التنافسية في مجال التكنولوجيا هي واحدة من الركائز الثلاث، جنباً إلى جنب مع القوة الاقتصادية والسيادية، الذي تُظهر فيه أي قوة عُظمى حديثة مطالبها.
أصبحت الحاجة أكثر قوة إلى الرهان على مجال التكنولوجيا بسبب تباطؤ النمو المحلي، والقلق من إعادة التوازن الذي تطنطن الصين به كثيراً، لأن التحول من اقتصاد يقوده الاستثمار إلى اقتصاد مدفوع من الاستهلاك، قد أخفق في الإقناع.
هناك أيضا عنصر من الخوف على الطراز القديم: الخوف من الاعتماد على التكنولوجيا الخارجية ازداد عمقا بعد انتخاب دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة، على أساس لغة طنانة تنادي بالحمائية التجارية.
قال أتكينسون في تقريره أمام الكونجرس: "من أشباه الموصلات إلى التجارة الإلكترونية، كان تشي يطنطن بكل جرأة بأن هدفه هو أن يجعل الصين سيدة تلك التقنيات".
برنامج "صنع في الصين 2025" الذي بدأ منذ عامين، هو خليط من المخططات المصممة لدفع أهداف التكنولوجيا في البلاد.
وقد أنشئ على غرار الصناعة الألمانية 4.0، وهو يشكل مخططا لتحويل الصناعات التحويلية بعيدا عن مصانع العمالة الكثيفة ذات القيمة المنخفضة التي تشتهر فيها البلاد نحو عصر التكنولوجيا الذكية – ذات الفائدة المضاعفة مع ارتفاع تكلفة العمالة.
ومن خلال الاستفادة من البيانات الضخمة والحوسبة السحابية والروبوتات، تقترح الآلية أتمتة واسعة للصناعة وتهدف إلى رفع المحتوى المحلي للمكونات التي يتم إنتاجها في الصين إلى 70 في المائة بحلول عام 2025، مما بين صفر إلى 30 في المائة اليوم.
وقد فعلت بكين ذلك في عدد من القطاعات الفردية من قبل. نتيجة شعورها بالإحباط من أنها تنفق على استيراد أشباه الموصلات أكثر من النفط، فقد أنفقت منذ عام 2014 مبلغ 150 مليار دولار، على مزيج من عمليات الاندماج والاستحواذ والإعانات المحلية لتطوير القطاع.
كما قامت بسكب الأموال على أبطالها الوطنيين، بقيادة شركة تصنيع أشباه الموصلات الدولية، مع تشجيع الشركات متعددة الجنسيات مثل إنتل وكوالكوم على إنشاء فروع لها في الصين.
لم يكن التوسع دون جدل. فقد قامت الجهات التنظيمية، أبرزها اللجنة الأمريكية للاستثمار الأجنبي (Cfius)، بعرقلة عدة صفقات بسبب المخاوف من الأمن القومي.
وشملت الضحايا في العام الماضي عرضا بقيمة ثلاثة مليارات دولار أمريكي تقدمت به مجموعة شركات صينية من أجل إنشاء وحدة إضاءة تابعة لمجموعة فيليبس الهولندية مقرها الولايات المتحدة، التي أحبطت من قبل اللجنة.
في أوروبا، واجهت عملية بيع الشركة المصنعة لمعدات الرقاقة الألمانية أيكسترون، التي بلغت قيمتها 670 مليون يورو لمستثمرين صينيين أيضا معارضة من الأجهزة المنظمة.
يتوقع معظم الخبراء أنه سيكون هناك تدقيق أكثر تشددا بشأن العطاءات الصينية لشراء أصول التكنولوجيا في الخارج في المستقبل.
مع وجود عدد متزايد من الشركات الصينية التي تقوم بإنشاء مراكز البحث والتطوير أو أعمال صغيرة في الولايات المتحدة وغيرها من الأسواق، ذلك يمكن أن يصبح موضوعا أقل إثارة للجدل.
يقول دانيال رولز، الشريك المنتدب في مكتب المحاماة سكوير باتون بوجز في شنغهاي، إن هذه المشاريع يمكن أن تستخدم كقنوات للاستحواذ، على نحو يقوض حجة الأمن القومي.
وقال رولز: "إذا كانت الشركة المملوكة للأجانب التي تعمل في الولايات المتحدة لعدة سنوات ستستحوذ على شركة تكنولوجيا اليوم، أنا لست متأكدا ما مقدار التدقيق الذي سوف تنظر إليه لجنة Cfius أو الناس الذين سوف يشعرون بالقلق بشأن ذلك"، مشيرا إلى أن الشركات الصينية تعمل على آفاق طويلة الأجل.
إذا كانت أشباه الموصلات تمثل غزوة بكين الأكثر جرأة في تشكيل صناعة التكنولوجيا، يمكن رؤية تأثير الدولة في القطاعات الخاصة الأخرى.
شركات بايدو وعلي بابا وتينسنت، المدرجة في الخارج وتتباهى بقيمة سوقية مجتمعة تبلغ نحو 600 مليار دولار، تعمل على مشاريع مشتركة مع الدولة.
أعلنت اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح التي وضعت استراتيجية اقتصادية واجتماعية في العام الماضي عن إنشاء 19 مختبرا وطنيا للبيانات معظمها في الجامعات كجزء من برنامج صنع في الصين.
أعمال السحابة التابعة لعلي بابا تشارك في اثنين من المختبرات: الأول لدعم استخراج البيانات على الإنترنت والمعالجة المستندة على السحابة للقطاع الصناعي، والآخر لبناء منصة لبرمجيات البيانات الكبيرة.
قال مايكل راسكا، الأستاذ المساعد في كلية راجاراتنام للدراسات الدولية بجامعة نانيانغ التكنولوجية في سنغافورة: "الصين تستغل الشبكات التجارية والعلمية العالمية، وتروج لنقل التكنولوجيا، والاستثمار الأجنبي في البحث والتطوير، وتدريب العلماء والمهندسين الصينيين في الخارج. الاستراتيجية الكامنة وراء هذا المسعى تحولت لتصبح مفهوم "الابتكار الأصلي": أي تحديد وهضم واستيعاب وإعادة اختراع تكنولوجيات أجنبية مختارة في كل من المجالين المدني والعسكري".
يقول بول هاسويل، وهو شريك مقره في هونغ كونغ في مكتب المحاماة بينسنت ميسونس، إن إغراء المختصين من أمثال بيرنز للقدوم إلى الصين "لا يختلف عما يفعلونه مع كرة القدم، حيث يشترون لاعبي كرة القدم حتى يتمكنوا من تمرير المهارات إلى مواطنيهم".
تهدف الخطط المدعومة من الدولة، ولا سيما مشروع كيانرن جيهوا أو "الألف موهبة"، التي جلبت بيرنز إلى الصين، لاقتناص بعض ألمع العقول من وادي السيليكون وبوسطن وأماكن أخرى، وزرعها في المناطق النشطة مثل بكين أو شنتزن.
يقدم برنامج الألف موهبة، الذي أنشئ منذ عقد من الزمان، صفقات يمكن أن تعاني معظم الشركات متعددة الجنسيات من أجل مواكبتها. إضافة إلى حزمة الترحيب التي تبلغ قيمتها مليون رنمينبي (144 ألف دولار)، هناك مقاعد مدرسية مضمونة للأطفال وعروض وظيفية للزوجات. يتم تقييم المتقدمين تبعا لمؤهلاتهم وإنجازاتهم، ولكن أصحاب التكنولوجيا أو الملكية الفكرية يحصلون على أعلى النقاط.
يمكن للمرشحين الناجحين اختيار تولي أدوار في أي من القطاعين العام أو الخاص.
وكما يروى، فقد نتج عن هذا المشروع تطورات في مجالات تتراوح بين التسلسل الجيني والطاقة النظيفة وتكنولوجيا الأمن القومي.
في المقابل، يأخذ صاحب العمل الصيني نسبة من أي براءات اختراع أو اختراعات - علامات مهمة في جهود بكين لقياس تقدمها. يمتلك بيرنز نسبة 42.5 في المائة من ملكية أي براءات اختراع يطورها، بينما يذهب الباقي إلى جامعة نيويورك-شنغهاي - وهي مشروع مشترك بين جامعة نيويورك وجامعة شرق الصين الطبيعية في شنغهاي.
وهذه النسبة هي النسبة نفسها التي كان يحصل عليها في الولايات المتحدة.
استطاع البرنامج تأمين قوة عقلية كبيرة، وفي هذه الأثناء استطاع استدراج بعض العلماء الصينيين في الداخل. تشانغ ليانغ جي، الذي غادر البلاد للولايات المتحدة بعد درجة الدكتوراه من جامعة تسينغهوا المرموقة، هو واحد من هؤلاء المجندين.
وحيث إنه يحمل 40 براءة اختراع باسمه، عاد إلى بلاده للعمل على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في منصب كبير العلماء في مجموعة برامج المشاريع كينغدي فى شنتشن، مهد ريادة الأعمال من الصين، وأقرب المنافسين في آسيا إلى وادي السيليكون.
تُستكمَل هذه البرامج الوطنية بعدد كبير من البرامج المحلية، ولا سيما في مراكز التكنولوجيا مثل شنتزن وهانغتشو.
إضافة إلى هذه البرامج هناك أيضا الاقتناص المباشر للأشخاص المتميزين من النوع الشائع في الغرب ولكن لديه تاريخ أقصر في الصين. في أواخر العام الماضي، عيّنت شركة بايدو لمحرك البحث، لو تشى، أحد المخضرمين من "مايكروسوفت"، لقيادة جهودها نحو الذكاء الاصطناعي. وكما يقول أحد المحللين مازحا "إذا كنت لا تستطيع شراء الشركة، اشتر الرأس".