رجال ألمع .. لإحياء التراث حكاية وطنية فريدة

رجال ألمع .. لإحياء التراث حكاية وطنية فريدة
رجال ألمع .. لإحياء التراث حكاية وطنية فريدة

رجال ألمع لها حكاية أسطورية وماضٍ تليد، تشهد بذلك حضارتها الساحرة، وفنها المعماري الفريد، الذي لا يزال شامخا في تحديه للطراز العمراني الحديث، رافضة هذه الجدران البكماء التي تنثرها العمارة المعاصرة.
تقع قرية رجال ألمع الأثرية، التي اكتسبت شهرة واسعة، خصوصا بعد افتتاح متحفها التاريخي الذي أصبح مقصدا للسياح من كل أنحاء العالم على مدار العام، إلى الغرب من منطقة عسير، ولها محافظة باسمها، يحدها من الجنوب بلاد بني شعبة، ومن الشرق بلاد ربيعة ورفيدة وبني مغيد، ومن الغرب البحر الأحمر، وتعد قبائلها من أكبر قبائل تهامة وأكثرها سكانا، إذ يتجاوز عدد سكانها 150 ألف نسمة، وتبعد نحو 40 كيلومترا عن مدينة أبها.

معمار فريد
تتميز رجال ألمع بطابعها الفني الفريد في المجال العمراني، حيث تبني منازلها من الحجارة الصلبة، ويدخل معها في عملية البناء الطين الناعم، وقد يبلغ ارتفاع بعض المنازل في البلدة ستة طوابق، وعرض الجدار أحيانا على المتر، ما يجعل هذا المنزل يتمتع بالتكييف المركزي، إن صح التعبير، فهو يتميز باعتدال جوّه في الداخل في كل من فصلي الصيف والشتاء، إذ تصنع سقوف المنازل من سيقان الأشجار العرعر، والثعب، والعتم، والسدر وغيرها من أشجار المنطقة، ويوضع التراب فوق هذه الأخشاب بعد تغطيتها بالخسف والأعشاب، حتى لا تتساقط الأتربة داخل الغرف، كل ذلك بطريقة هندسية مميزة تضفي على الغرفة جمالا وأناقة.
وهناك بعض القصور التي كانت حصونا استخدمت حامية للبلد في أزمان الحروب، وهي متعددة الأدوار بعد أن حولت إلى مساكن، ويتضح ذلك للرائي من خارجها، أما بالنسبة للمنازل، فيتم نقشها عبر ما يسمى بـ"القـَط"، وهي حرفة نسائية تشبه الفن التجريدي حاليا، ولا يخلو بيت من ذلك، وكانوا يستخدمون بعض الأشجار للنقش باللون الأخضر، أما كامل الجدار فيدهن بمادة تسمى "القضاض"، وتستخرج من أماكن معينة في الجبال، ولونها أبيض.
وخلال حقبة زمنية سالفة مرت رجال ألمع بما يشبه الطفرة المالية، فانتعش إعمار الحصون في المنطقة كلها، وهو ما يظهر جليا من خلال الجهد الكبير المبذول والتكلفة المالية العالية، وكل ذلك مصحوب بمهارة فائقة للمهنيين، وبالتعاون الكبير بين الأهالي، وقد تفاوتت أعمار هذه الحصون التي لا يزال بعضها قائما بحسب وثائق البناء أو الترميم الخاص بها.

أمن اجتماعي
يعكس لجوء أهالي القرية إلى التجاور في إقامة المباني، مدى حاجتهم إلى الأمن الاجتماعي، حتى صارت القرية أشبه بثكنة عسكرية عالية التحصين، وكان الباب الرئيس لكل حصن يتسع لدخول الجمل بحمله، وربما عدة جمال، وهذا ما كان مثيرا للدهشة والعجب، وكانت مظاهر النقل المستخدمة تظهر آثارها في فن العمار داخل القصور والحصون وخارجها، بل حتى في نوع الأواني والأدوات المستخدمة داخل المنازل، وتدل مبانيها في تلكم الأدوار المتكررة بتفاصيلها الهندسية الداخلية والخارجية المتقنة على حضارة رائعة ومهنية راقية يحرص أهل المحافظة على التمسك بها، إيمانا منهم بثقافة الأثر المهمة في سلسلة التواصل الحضاري.
أما بالنسبة للأسواق المحلية، فتلعب دورا مهما في نشاط قرية رجال ألمع، لذلك تتوزع الأسواق على القبائل والقرى بعدد أيام الأسبوع، باستثناء يوم الجمعة، وتعد التجارة في رجال ألمع أحد روافد التجارة الحيوية في المملكة قديما، حيث كانت القوافل التجارية تأتي محملة بالبضائع من جنوب الجزيرة العربية، خصوصا من عدن، لتنتقل منها إلى كثير من مناطق المملكة، ومن أشهر الأسواق سوق النساء التي تقع مقابل متحف المحافظة، وتباع فيها كل ما تحتاج إليه المرأة من أساسيات وإكسسوارات، سواء أكانت تراثية شعبية أو معاصرة تواكب الموضة التي تتجدد يوما بعد يوم.
وكانت الأسواق في رجال ألمع كحال غيرها من الأسواق القديمة، مصدر إعلام وتناقل أخبار وإعلان المناسبات، والإخبار بالخير أو الإبلاغ عن السرقة أو فقد الممتلكات، وغيرها من الأنشطة الحياتية التي ترتبط بتواصل الناس بعضهم مع بعض، ومن الطرق التي كان يتم بها ذلك أن ينادي الصائح: اسمعوا.. ستر الله عليكم.. وأحيانا رضي الله عليكم - ثم يعلن حاجته، وفي سوق السبت يقوم الصائح بالتهليل: لا إله إلا الله، ويكررها، حتى ينصت الجميع، ثم يعلن عن الخبر، فإن كانت مفقودات فإن الصائح يختم كلامه بإعلان البشارة، وهذا العرف كان سائدا قديما في معظم أسواق المنطقة مع اختلاف الطريقة، وتحكم الأسواق قوانين تضبط حركتها وتنظم أحوال العمل فيها، ومن المعروف أن المعتدي والمتجاوز يحاسب من قبل حكام السوق، وأن الاعتداء في السوق اعتداء على القبيلة صاحبة يوم انعقاد السوق.
وما يميز أسواق رجال ألمع، أنها تحتضن عدة صناعات، مثل صناعة الجلود، والخرازة، وهي صناعة قرب الماء والأحذية، والأحزمة، ومسابت حفظ الرصاص والزينة في المناسبات، كما يتم صنع الخزف، وأدوات الطبخ الفخارية، والمباخر، وصناعة البسط والمراوح اليدوية.

متحف خاص
تحوي قرية رجال ألمع متحفها الخاص، إذ أنشئ متحف ألمع الدائم للتراث من قبل أهل المحافظة عام 1405هـ، لهدف حفظ تراث منطقتهم، وقد اختير حصن آل علوان (مسمار) الذي يعود بناؤه إلى نحو 400 سنة مكانا لهذا المتحف، فرمم القصر بتعاون كثير من أبناء رجال ألمع كل بحسب إمكاناته وخبرته، وأسهمت نساء المحافظة بنقش القصر، وتبرعت الكثيرات منهن بحليهن القديمة من الفضة وبعض مدخراتهن من الزينة لمصلحة المتحف، لما تمثله من تراث أصيل لأهالي المحافظة.
افتتح المتحف الأمير خالد الفيصل (أمير منطقة عسير سابقا، مستشار خادم الحرمين الشريفين وأمير منطقة مكة المكرمة حاليا) عام 1407هـ، وبدأ يمارس دوره كقناة ثقافية سياحية منذ ذلك الحين، حتى أصبح السياح يقصدونه من كل أنحاء العالم على مدار العام، وقد تزايد عدد زواره بعد افتتاح مشروع العربات المعلقة في السودة وتأمين المواصلات بين محطة العوص والمتحف، وكان لذلك دور مهم في تسهيل زيارة المتحف، وخاصة في فصل الصيف حيث يبلغ الموسم السياحي ذروته.
ويحتوي المتحف الذي تم إنشاؤه قبل أكثر من ربع قرن على جوانب من الحياة الألمعية مثل الأثاث، والمصنوعات الحرفية، والسلاح، والأدوات الشخصية والمهنية، ويحتضن أكثر من 2800 قطعة أثرية، ونحو 500 كيلوجرام من الفضة القديمة، وبعض المخطوطات القديمة التي يصل عمرها إلى مئات السنين، ولتميزه نال المتحف عديدا من الجوائز، من أهمها: جائزة المفتاحة لعام 1421هـ، وجائزة الأمير سلطان بن سلمان للتراث العمراني، وجائزة الحفاظ على التراث لمحافظة رجال ألمع عام 1427هـ.

الأكثر قراءة