اللغة الروسية تتلاشى في الحدائق الخلفية والإسبانية تزداد انتشارا
تأثير اللغة المُتلاشي يُسلّط الضوء على تأثير موسكو المُتلاشي وسط جهود فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي، لإعادة تأكيد أهمية القوة العُظمى السابقة على الساحة العالمية من خلال تدخلاتها العسكرية في أوكرانيا وسورية.
أسرع تراجع في استخدام اللغة الروسية شهدته كازاخستان، حيث قال 20.7 في المائة من الناس في عام 2016 "إنهم عادةً ما يتحدّثون الروسية في المنزل"، مقارنة بـ 33.7 في المائة في عام 1994، وذلك استنادا إلى بيانات من عمليات الإحصاء السكاني الوطنية ومن "الأمم المتحدة"، جمعتها مجموعة يورومونيتور إنترناشونال للأبحاث.
وجاءت النتائج في الأسبوع الذي قال فيه نور سلطان نزارباييف، رئيس كازاخستان، "إن بلده الواقع في آسيا الوسطى سيحوّل الأبجدية الكازاخية إلى نص لاتيني"، قائلاً "إن الانتقال إلى نص السيريليك على النمط الروسي في عام 1940 كان مدفوعاً بأسباب سياسية".
وشهدت أستونيا ولاتفيا، وهما اثنتان من دول البلطيق السوفياتية السابقة الثلاث، منذ عام 1994 انخفاضا بلغ عشر نقاط مئوية في نسبة سكانها الذين يعتبرون الروسية لغة أولى، مع انخفاض عدد المتحدّثين بالروسية في لاتفيا من 40.5 في المائة إلى 29.8 في المائة، وفي أستونيا من 33.3 في المائة إلى 23.4 في المائة.
وشهدت أوكرانيا تراجعا مماثلا في المتحدّثين بالروسية، من 33.9 في المائة في عام 1994 إلى 24.4 في المائة في العام الماضي، بينما انخفض عدد الأقليات التي تتحدّث الروسية في أذربيجان وليتوانيا وتركمانستان وأوزبكستان.
وفي جورجيا التي خاضت حرباً مع روسيا في عام 2008، انخفض عدد المتحدّثين باللغة الروسية من 6.4 في المائة من السكان إلى 1.1 في المائة فقط. ميخائيل ساكاشفيلي، رئيس البلاد بين عام 2008 وعام 2013، أعلن في أعقاب الصراع عن خطة لاستبدال الإنجليزية بالروسية لغة ثانية.
كريس ويفر، وهو شريك أول في "ماكرو-أدفايزوري"، وهي شركة استشارية مقرها في موسكو، مختصة في دول الاتحاد السوفياتي السابق، قال "إن تراجع اللغة الروسية وصعود اللغات المحلية مثل الكازاخية واللاتفية والأوكرانية مدفوع من القوى السياسية التي أطلقها تفكُك الاتحاد السوفياتي".
وأضاف "كانت الدول أسيرة تحت الحُكم السوفياتي وعندما تحررت أرادت البدء في التخلّص من سمات الأسر، بما في ذلك اللغة". وتابع "جزئياً لكي تنأى بنفسها عن التأثير الروسي، سواء ثقافياً أو سياسياً على وجه الخصوص، (وسط) خوف من أن الحفاظ على اللغة الروسية سيجعل من السهل على موسكو ممارسة النفوذ على سياساتها (من خلال) خطر الدعاية ونشرات الأخبار الروسية التي تؤثر في الأجندة المحلية". وبعض البلدان ابتعدت عن الروسية في إطار استراتيجية لإيجاد تحالفات سياسية مع الغرب وآسيا وجذب الاستثمارات.
تشارلز روبرتسون، كبير مختصي الاقتصاد العالمي في "رينيسانس كابيتال"، المصرف الاستثماري الذي يتخذ موسكو مقرا له، يتّفق مع هذا الرأي ويقول "في البلدان التي كانت الروسية فيها هي اللغة المشتركة مع الاتحاد السوفياتي منذ عام 1991 كانت هناك رغبة من جانب القادة الوطنيين الجُدد في تطوير قومياتهم من أجل منح دولهم مزيدا من الاستقرار. دول البلطيق كرهت التطبيع الروسي الذي كان مفروضاً عليها".
وأشار روبرتسون أيضاً إلى "التدفق الكبير" للروس الأصليين، خاصة من آسيا الوسطى، إلى روسيا في التسعينيات وأوائل العقد الأول من الألفية باعتباره عاملا في تراجع الروسية في بعض الدول.
لكن هناك بلدا واحدا، هو روسيا البيضاء، تحرّك بعناد في الاتجاه المُعاكس. ففي حين كان أقل من نصف السكان بقليل يعتبرون الروسية هي لغتهم الأولى عام 1994، زادت النسبة إلى 71 في المائة بحلول العام الماضي.
ويعتقد ويفر أن "تأثير التقلّب" ظهر بشكل مُعاكس في روسيا البيضاء، مقارنة بالدول الأخرى ما بعد الاتحاد السوفياتي، مع مُعارضة الغرب إلى حد كبير للألكسندر لوكاشينكو، الرئيس منذ عام 1994 الذي أشرف، بعد عام، على الاستفتاء الذي وضع اللغة الروسية على قدم المساواة مع لغة روسيا البيضاء.
وقال ويفر "على عكس دول البلطيق وجورجيا وأوكرانيا، لم تُبذل أي جهود من قِبل الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة للعمل مع روسيا البيضاء. بدلاً من ذلك كان الموقف في الغرب هو (الدكتاتور الأخير في أوروبا) وتجنّبوه والبلاد، وهو ما اضطر مينسك بالتالي إلى البقاء قريبة من موسكو".
واستشهد روبرتسون بالعلاقات "الوثيقة للغاية" بين البلدين، مثل الوصول السهل الذي يملكه أهل روسيا البيضاء إلى سوق العمل في روسيا، فضلاً عن عدم وجود القومية التي نشهدها في الدول الأخرى ما بعد الاتحاد السوفياتي، باعتبارهما عاملين وراء زيادة هيمنة اللغة الروسية.
وقال روبرتسون "لم تكُن هناك القومية نفسها في روسيا البيضاء. فهم لم يحظوا حتى بعام واحد من الاستقلال (قبل تفكُك الاتحاد السوفياتي). يُطلق عليهم اسم الروس البيض، ولم يكن ينُظر إليهم في الواقع كأي شيء آخر".
في أماكن أخرى، تُشير بيانات يورومونيتر إلى زيادة اللغة الإسبانية انتشارها في كثير من أنحاء أمريكا اللاتينية على حساب اللغات الأصلية.
وعلى الرغم من النظر إلى معظم البلدان في المنطقة منذ فترة طويلة على أنها ناطقة بالإسبانية، إلا أن الأقليات استمرت في اعتبار اللغات المحلية هي لغاتها الأم التي يجري التخاطب بها في المنزل. لكن منذ عام 1994 أصبحت هذه الأقليات أصغر من قبل.
في بوليفيا فئة السكان الذين يعتبرون لغة "إيمارا" هي لغتهم الأولى انخفضت إلى النصف تقريباً، من 23.2 في المائة في تلك الفترة إلى 12.4 في المائة حاليا. "الكيشوا"، وهي أيضا لغة أصلية متراجعة يُفضّلها الآن 17 في المائة من البوليفيين، بينما ارتفعت نسبة السكان الذين يتحدّثون الإسبانية لغة أولى من 55.3 في المائة إلى 65.3 في المائة.
في البيرو المجاورة استخدام الكيشوا لغة أولى تراجع من 16.2 إلى 11.6 في المائة من السكان، بينما في جواتيمالا يتحدثون الإسبانية على نطاق واسع لغة أولى تقريباً، بقدر اللغات المحلية المختلفة.
وفي بعض البلدان تتعرّض اللغات الأصلية لخطر الاختفاء تماماً. في تشيلي، مثلا، اللغة الأصلية مُفضّلة الآن من قِبل 0.4 في المائة فقط من السكان، مقارنة بـ 1.7 في المائة في عام 1994. وفي الأكوادور اللغات الأصلية، باستثناء الكيشوا، يُفضّلها الآن 0.2 في المائة فقط من الناس، مقابل 2.4 في المائة عام 1994.
ويعتقد روبرتسون أن زيادة هيمنة اللغة الإسبانية مدفوعة جزئياً من الشركات التي تُفضّل اللغة المشتركة لتسهيل التجارة عبر الحدود مع الأمريكيتين. وهذا الاتجاه تعزّز أكثر بسبب صعود الإسبانية لغة ثانية في الولايات المتحدة. ويضيف "اعتباراً من العام الماضي، كانت اللغة مُفضّلة من قِبل 13.4 في المائة من الناس في الولايات المتحدة، مقارنة بـ 8.9 في المائة عام 1994".
تشديد اللغة الإسبانية قبضتها على أمريكا اللاتينية يتناقض مع النمط السائد في كثير من العالم، حيث مستويات الهجرة المتزايدة أدت إلى تراجع انتشار اللغات الوطنية.
هذا كان ملحوظاً بشكل خاص في كثير من البلدان الناطقة بالإنجليزية، مثل المملكة المتحدة وأستراليا وكندا، فضلاً عن الولايات المتحدة.
مع ذلك، تقدّمت اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة أولى في سنغافورة، حيث يُفضّلها الآن 36.1 في المائة من السكان، مقابل 19.8 في المائة عام 1994، مع تراجع شعبية اللغة الصينية.
ويعزو روبرتسون هذا إلى لي كوان يو، الأب المؤسس لسنغافورة، الدولة المدينة، الذي حكم ثلاثة عقود حتى عام 1990، وعمل على تعزيز اللغة الإنجليزية لغة مشتركة من أجل تسهيل اندماج سكان البلاد ذوي التركيبة المُختلطة عرقياً.