هل يعقل هذا؟
عنوان رسالة هذا الأسبوع مطروق وقد يراه البعض رتيبا أيضا.
بيد أن معنى عبارة "هل يعقل هذا؟" يتجلى بأبهى وربما أسوأ صوره في حياتنا المعاصرة وعلى وجه الخصوص في الإعلام.
ونحن اليوم لنا أكثر من سردية واحدة للحدث والواقع الاجتماعي. ونحن قلما نمتحن المعلومة التي نتلقاها وإن وضعناها أمام المشرحة نفعل ذلك ضمن إطار سرديتنا.
وإن طلب منا طرف محايد أن نكون منصفين ونزيهين في حكمنا على شخص أو حدث أو فكر أو ثقافة، نستغرب السؤال.
مثلا، لو رأيت أن خصما لي "شخصا كان أو مجموعة أو فكرة أو ثقافة أو غيره" وقع في مطب، لقلت: "لقد جنى على نفسه ويستحق ذلك وأكثر".
والسردية التي سألتزم بها تمنح الحق للذي أوقع غريمي في المطب. لا بل قد أذهب بعيدا وأثني على الذي منحني فرصة أن أرى الخصم في وضع لا يحسد عليه.
لو عكسنا الآية، سندخل في سردية مختلفة تماما. لو وقع صديق لي "والصديق يشمل الذي يشاركني في الفكر والثقافة والميول وربما السراء والضراء" في مطب، ماذا سيكون الموقف؟
في هذه الحالة لقلت: "إنه لا يستحق ذلك وعلينا مساندته". ومن ثم لن نلقي اللوم عليه وعلى الحال الذي صار فيه ونجتر تبريرا وراء آخر للدفاع عنه.ووصل الأمر بنا في وقتنا هذا إلى إبداء الرأي وإنزال الحكم على الأشخاص والمجموعات والأفكار والثقافات وحتى الدول بمجرد ذكر اسمها.
وإن تجرأنا وقلنا لصاحب أي سردية أعلاه أن يحاول البحث والتقصي عن الحقيقة قبل إطلاق العنان لحكمه، لقال: "هل يعقل هذا؟" بمعنى أن الأمر لا يحتاج إلى بحث واستقصاء لأن الحقيقة بالنسبة إليه جلية وواضحة.
وأصحاب كل سردية، بصورة عامة، لهم من الحقائق والبراهين والأدلة الجاهزة التي يأتون بها ويكررونها حتى الملل القاتل، كلما أردت مواجهتهم وحثهم على النظر ولو حيناً خارج إطارهم الذهني والفكري.
مواقف كهذه قد تحير العقل وتربك الفكر الذي يسعى إلى إشغاله وعدم تركه فريسة للسرديات الجاهزة أو التي تفرضها السلطة بشتى أشكالها.
والتشبث بالسردية التي تستند إلى التحزب والتحيز والمحاباة يصبح جزءا من الحس العام أو الفطرة التي يتطبع عليها الناس.
ولهذا فإننا في الغالب نفشل مهما حاولنا إخراج أصحاب السرديات الجاهزة من عالمهم المبني على وجهة نظر واحدة ومهما أتينا من الأدلة والحقائق.
عند تحليل خطاب سرديات كهذه، نرى أن أصحابها لا يشعرون بأنهم قد يكونون على خطأ ولا يحسون أنهم يكررون الشيء ذاته ويؤدون المواقف ذاتها دون شعور منهم.
ويصل الأمر إلى مدى من عدم التسامح لا بل الإجرام بحق الآخر.
انظر إلى الموقف من هجوم يكون ضحاياه من المدنيين. أصحاب السرديات الجاهزة لا يبنون مواقفهم على العدالة الاجتماعية والإنسانية ومناوأة الظلم من أين أتى. إنهم يستندون في مواقفهم إلى قربهم وبعدهم من هوية وثقافة وميول الضحايا والجناة.
وهنا لا نتحدث عن مستوى أفراد عاديين. هذا يحدث مع مؤسسات إعلامية كبيرة ومع دول وأناس لهم مكانة وتأثير ضمن مجتمعاتهم وخارجها.
السردية التي ترافق نقل المعلومة عن ضحايا هجوم إرهابي مثلا في الغالب مبنية على القوالب الخطابية الجاهزة دون مراعاة العامل الإنساني.
وعالم اليوم، وعلى الخصوص عالم ما بعد 2017م، تتحكم فيه تقريبا بصورة مطلقة السرديات الجاهزة.
الأمر ليس غريبا بالنسبة لمحللي الخطاب وأساتذته. فأنا شخصيا لم أندهش كما اندهش كثيرون وهم يرون كيف أن النماذج الأدبية الغربية التي تتنبأ وتحاكي عالما وواقعا مريرا سيحل على العالم، عادت وتربعت اليوم على قمة المبيعات في أمريكا والغرب رغم مرور عشرات السنين على نشرها لأول مرة.
ومنها كان كتاب "فهرنهايت 451" لكاتبه راي برادبوري وهو في رأيي أفضل كتاب عن عالم الواقع المرير dystopia.
نبوءة برادبوري أقرب إلى واقع عالمنا المرير هذا. فهو يحذر من التربية والتعليم ومدارسها التي تخرج أفواجا من العدائين والراكضين وراء المناصب، همهم تحين الفرص وتنفيذ الأوامر دون نقاش بدلا من النقاد والممتحنين والمناقشين والعارفين لميزة العقل وكيفية تشغيله.