مرض التوحد الحضاري الذي يصيب المجتمع
لماذا تأخرت بعض الشعوب والجماعات في اللحاق بركب الحضارة الإنسانية؟ لماذا لم تشارك بسرعة في بزوغ فجر الإسلام وقبلت المد الفكري الإسلامي عندما وصل إليها، لِمَ لم تشارك في الثورة الصناعية الأولى أو حتى قرون التنوير التي صاحبتها، وعصور الفلاسفة، لماذا تتأخر، بل تتعثر عند المشاركة في الإبداع الإنساني؟ لماذا لم تطور بعض المجتمعات ذكاء جمعيا فاعلا وخلاقا قادرا على إبداع تنظيم يكفل انخراط جميع أفراد المجتمع فيه حيث يسعى الجميع إلى إنتاج الثروة وتنمية القيمة بما يحقق مستويات عالية من الرفاهية للكل، ولماذا انعزلت بعض المجتمعات في قرى متناثرة معزولة باختيارها عن الحضارة الإنسانية، فلا تتفاعل معها فلا تؤثر فيها ولا تتأثر بها؟ لماذا ترفض هذه المجتمعات كل وافد جديد مهما بلغت أهميته ومصداقيته، بل تصبح طاردة للإبداع بكل تنوعه، فلا تستطيع احتواءه وتنميته؟ لماذا نسمي كل هذا تراثا نخفي به هروبا من الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها مما أشغلني لسنوات طويلة في محاولتي لفهم أسباب انعزال مجتمع ما لقرون بين جبال وعرة رافضا وبقوة نقل الصناعة والمعرفة وإنتاج القيمة، بل إنتاج ثورات فكرية عميقة وبناء أمة ناهضة؟
ورغم عمق المشكلة – في نظري - وخطورتها إلا أن الإجابات تأتي سطحية لترمي بالمسؤولية عن حالات التخلف الحضاري التي تصيب مجتمع ما بعوامل خارج بنية المجتمع نفسه، مثل الاستعمار والمؤامرة. لكن الأشد خطورة مما يلاحظ أن المجتمعات المصابة تدعي أن لها حضارة خاصة بها، وتتفاخر بتراث لا يدل على أكثر من جمود خطير في الحركة الحضارية لقرون عديدة مارست هذه المجتمعات من خلال تمسكها بهذا التراث تكرارا مملا لحركتها وأساليبها مهما تعاقبت قرون من الأجيال، وفي إصرارها على ممارسة هذا التراث غير المكتنز بمفاعلات حضارية كامنة فيه تغير مساره كلما دعت الضرورة إلى التحول والتغير والابتكار، تطرد هذه المجتمعات كل من يحاول من أبنائها تحدي هذا التراث أو حتى مناقشة مكوناته.
إنني أرى أن مثل هذه الحالات تشبه مرض التوحد الذي يصيب الإنسان ولذلك أسميه مرض التوحد الحضاري الذي يصيب المجتمعات ويجعلها تتقوقع داخل ذاتها، ولا تسمع سوى صدى صوتها، تردد بشكل مستمر ومتعاقب ما ألفته من فكر تغلفه القصص الاجتماعية والأساطير لتؤسس من خلاله قواعد سلوك وعقود اجتماعية يجب على أفراد المجتمع القبول والخضوع لها، وتضمن – وذلك أخطر ما فيها - عدم التفكير خارج إطار الفكر الاجتماعي السائد. وإذا كان مرض التوحد يصيب الأفراد فإنني أعتقد أنه يصيب المجتمعات أيضا، وله أعراض التوحد نفسها عند الإنسان.
إنني أجادل بأن مرض التوحد الحضاري يصيب الذكاء الاجتماعي والجمعي للمجتمع، فكما أن مرض التوحد يعرف بأنه اضطراب النمو العصبي الذي يتصف بضعف التفاعل الاجتماعي، والتواصل اللفظي وغير اللفظي، وبأنماط سلوكية مقيدة ومتكررة، فإنني لأغراض هذا المقال أعرف التوحد الحضاري باضطراب يصيب الذكاء الجمعي لمجتمع ما، ما يضعف فيه التفاعل الاجتماعي مع المجتمعات الأخرى وبأنماط اجتماعية مقيدة ومتكررة. كما أن مرض التوحد عند الإنسان له مستويات بين أعراض شائعة وبين المصابين بشدة، فإن التوحد الحضاري أيضا له أعراض شائعة بين المجتمعات الإنسانية، وهناك مجتمعات مصابة به بشدة.
لعل من أهم أعراض مرض التوحد الحضاري للمجتمعات ضعف التواصل مع الحضارات الإنسانية الأخرى، وكأن المصابين بهذا المرض يشعرون بأنهم على كوكب آخر، فهم لا يتفاعلون مع غيرهم ولا يتنبهون للتغيرات التي تصيب البشرية إلا متأخرا، والسبب في هذا هو تفضيلهم للانعزال لمفردهم وجعل التضاريس مبررا لذلك الانعزال.
كما يلاحظ دائما في مرضى التوحد عند الإنسان انغماسهم في تكرار تصرفاتهم والانهماك في أنشطة روتينية صرفة حتى الهذيان، تصاب المجتمعات المرضية بالتوحد بتكرار أنشطتها على مدى القرون، حتى لا تكاد تجد في بحوث التاريخ عن تغيرات نشطة أو تحولات جوهرية في غير تكرار ممل للأنشطة أو الصراعات، وقد يتعرض الأفراد في هذه المجتمعات إلى ما يشبه السلوك القهري الذي يجبرهم على الالتزام بقواعد ليس لها مبررات من نقل أو عقل، بل فقط ما ألفه الآباء وتعلمه الأبناء، مع مقاومة للتغيير، مثل الإصرار على ممارسة طقوس فرضتها الظروف الاقتصادية في حقبة ما تحولت إلى عادة اجتماعية تكررها الأجيال رغم اختفاء الظروف المنشئة لها أساسا.
إن مرض التوحد الحضاري الذي أجادل عنه اليوم، يتسبب في نتائج خطرة للغاية، فالمجتمع لا يقبل التفاعل مع الآخرين فلا ينقل إليهم ولا يأخذ منهم، وتفاعله معهم إذا حدث هو من قبل ما تقتضيه ظروف البقاء، ويجب ألا نخلط هنا بين التطورات الحضارية التي تنشأ في المدن وبين مرض التوحد الحضاري، فالمسألة ليس لها علاقة بالمدن وتطورها، بل بالمجتمعات نفسها، حتى داخل المدن، فالمجتمعات المصابة تعزل نفسها حتى داخل المدن، وقد لا يأخذك العجب من ذلك إذا عرفت أن الكثير من المدن الكبيرة والصغير أيضا، حققت نموا كبيرا ومع ذلك فإن هذا النمو لم يكن ناتجا عن سلوك متطور في المجتمعات الأصلية لهذه المدن، بل لدخول مجتمعات أخرى – غير مصابة في العادة – ومن ثم إحداث تغيرات حضارية في بنية المدينة، بل حتى في قوانينها، وعادة ما تجد السكان الأصليين (المصابين) ينعزلون في تضاريس أكثر تعقدا، ومن متعه الله بحب السفر والترحال وفنونه فإنه حتما قابل مجتمعات منعزلة بدعاوى مختلفة. هذا التفاعل المصطنع للمجتمعات يجعلها تقبل على مضض بالتحولات العلمية والحضارية الوافدة إليها، وتصنع منها أنماطا متكررة جديدة وتبعية حضارية، بل اقتصادية للوافد المتغير، ومع عدم وجود مبررات للتغيرات التي طرأت سوى دخول الوافد فإن المجتمع يصبح رهينة له، حتى لا يكاد يقر بقدرته على البقاء دون هذا الوافد الذي أنشأ التغيير وقاده.
ليس هذا فحسب، بل إن من خطورة مرض التوحد الحضاري ظاهرة الارتكاس، وهي ارتكاس الأجيال الجديدة بفعل ضغط المجتمع وعدم وجود مبررات كامنة للتغيرات الطارئة الحديثة فيعود الأبناء إلى ممارسة طقوس الأجداد في سلوك تكراري ممل مع تبريرات واهية لهذه الارتكاسات بيد أنها من أعراض المرض. هذا والله أعلم، وللحديث بقية.