FINANCIAL TIMES

الهند تحاول الاستفاقة من حريق الروبية المفاجئ

الهند تحاول الاستفاقة من حريق الروبية المفاجئ

مئات الهنود يحتشدون أمام مصرف في نيودلهي لإيداع واستبدال ما بحوزتهم من الأوراق النقدية فئة خمسمائة وألف روبية التي تقرر بشكل مفاجئ إخراجها من التداول. «أ. ب»

في بداية هذا العام بدأت الهند مطالبة شركات التجزئة التي تتلقى أكثر من 200 ألف روبية (ثلاثة آلاف دولار) نقدا من أي عميل تقديم تقرير بتفاصيل البيع - ورقم الهوية الضريبي للمشتري – إلى السلطات الضريبية. وكان تأثير ذلك فوريا على شركة "إيثوس" للساعات، سلسلة التجزئة للساعات الفاخرة التي تملك 45 متجرا: انخفضت المبيعات 60 في المائة. قبل القانون الجديد، 45 في المائة من مبيعات الشركة كانت من الساعات السويسرية التي تبلغ قيمتها أكثر من 200 ألف روبية – يتم شراؤها في كثير من الأحيان أصحاب حقائب مليئة بالأوراق المالية. ياشو سابو، مالك "إيثوس"، قال لـ "فاينانشيال تايمز" بعد بضعة أشهر من تنفيذ القانون الجديد: "الناس لم يعودوا قادرين على شراء المنتجات الباهظة الثمن دون التعرض لخطر استدعائهم من قبل دائرة ضريبة الدخل للاستفسار عن مصدر ذلك النقد الكثير". الرقابة الصارمة على المدفوعات النقدية الكبيرة كانت استهلالا لحملة رئيس الوزراء، ناريندرا مودي، للقضاء على "الأموال غير المشروعة" – الأموال المكتسبة من خلال أنشطة غير مشروعة، أو تم اكتسابها بشكل قانوني لكن لم يعلن عنها لموظفي الضرائب. وبلغت الحملة ذروتها في الأسبوع الماضي، مع حظر نيودلهي المفاجئ استخدام الأوراق المالية فئة 500 روبية و1000 روبية - إجراءات جذرية تهدف للقبض على مكتنزي المال غير المشروع. العملة الملغاة – تقدر في مجموعها بأكثر من 220 مليار دولار، أي 86 في المائة من السيولة المتداولة في الهند - لم تعد عملة قانونية وليس من المفترض أن تستخدم لأية معاملات، باستثناء شراء الوقود في محطات البنزين التابعة للدولة أو في المستشفيات الحكومية. وحتى 30 كانون الأول (ديسمبر)، هذه الفئات النقدية التي تبلغ قيمتها 7.50 دولار و15 دولارا، على التوالي، يمكن أن تودع في حسابات مصرفية أو يتم استبدالها بكميات صغيرة جدا نقدا للحصول على العملة الجديدة. لكن سيتم إبلاغ مسؤولي ضريبة الدخل عن أي إيداع أكثر من ربع مليون روبية، وهذا علامة على حملة موسعة ضد الفساد والتهرب الضريبي. الحظر النقدي الذي كان مودي قد أبقاه طي الكتمان حتى أعلن عنه في الثامن من الشهر الجاري صدم الهند تماما في الوقت الذي كانت تنطلق فيه البداية المحمومة لموسم الزواج، الذي يرتفع فيه الإنفاق. الأسواق مهجورة، باستثناء المصارف وأجهزة الصرف الآلي الغارقة في طوفان من الهنود المستميتين للحصول على العملة الصعبة. وقال مودي في كلمة ألقاها الأسبوع الماضي: "أنا أعلم أن القوى ضدي. ربما لن يدعوني أعيش. ويمكن أن يدمروني لأن غنائمهم التي جمعوها على مدى 70 عاما الآن في ورطة". فيما تسعى الحكومة الهندية للتغلب على الاختناقات اللوجستية التي أعاقت توزيع العملة الجديدة، يحتدم النقاش حول مدى فعالية هذا الإجراء شديد القسوة في مكافحة الأموال السوداء. وهناك أيضا أسئلة حول تأثيرها على الاقتصاد الأوسع. في الهند نسبة تداول النقد هي 14 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل أقل من 5 في المائة في الاقتصادات الكبيرة الأخرى. وما يقارب 80 في المائة من المعاملات الاستهلاكية تجري نقدا. وكثير من هذه المعاملات توقف الآن. القرار السري المفاجئ بإلغاء معظم العملة واستبدالها في الهند هو تجربة اقتصادية جذرية ومقامرة سياسية، مع عدد قليل من السوابق. بعض الاقتصاديين الغربيين، مثل كينيث روجوف، أستاذ السياسة العامة والاقتصاد في جامعة هارفارد، دعا إلى التخلص التدريجي من الفئات النقدية ذات القيمة العالية لمكافحة الجريمة في الاقتصادات المتقدمة، التي يغلب عليها أن تعتمد على النقد بمستويات أقل بكثير. ويعمل البنك المركزي الأوروبي ببطء على سحب فئة 500 يورو بسبب مخاوف من أنها تسهل النشاط غير المشروع والتهرب من دفع الضرائب. لكن حتى الآن إزالة الصفة النقدية عن تلك الفئات بين عشية وضحاها على نطاق واسع وممارسات استبدال العملة حدثت فقط في بلدان كانت في منتصف حالة من الانهيار الاقتصادي - مثلما كان الحال في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، أو الاتحاد السوفياتي السابق - أو في خضم تضخم مفرط. مثل هذا الاضطراب لم يلحق أبدا بالبلاد التي كانت تسير بشكل جيد مثل الهند، حيث نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 7.1 في المائة في الفترة من نيسان (أبريل) إلى حزيران (يونيو) من هذا العام. يقول جهانجير عزيز، المحلل العالمي للأسواق الناشئة في بنك جيه بي مورجان: "لا يوجد بلد واحد أقدم على هذا النوع من العلاج بالصعق. لا توجد لدينا أية سوابق لفعل أي شيء من هذا القبيل. نحن نؤدي عملا صعبا من دون استخدام المهارات والخبرات المطلوبة لذلك". ويقول سوابان داسجوبتا، وهو عضو في مجلس الشيوخ في الهند، إن هذه الخطوة مقصودة باعتبارها هزة جذرية للمجتمع الهندي حيث يعتبر الفساد والتهرب الضريبي من قبل الشركات والأفراد الأثرياء وسيلة للحياة. إنها مخاطرة كبيرة بالنسبة لمودي الذي تشمل قائمة أنصاره شركات الجملة والتجزئة التي يعرف عنها التعاملات النقدية غير الشفافة. ويضيف داسجوبتا الذي تربطه علاقات وثيقة مع حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم الذي ينتمي إليه مودي: "أن الدافع وراء ذلك هو فلسفة أنك إذا كنت تريد للهند أن تكون لاعبا ذا مغزى على الساحة الاقتصادية العالمية، ينبغي لك اتخاذ إجراءات صارمة. وإلا يمكنك أن تواصل الكد والكدح". وبحسب تقديرات الحكومة، نسبة الضرائب في الهند إلى الناتج المحلي الإجمالي هي 16.6 في المائة فقط، أي أقل من بعض البلدان المماثلة بنسبة 5.4 في المائة. ومن بين أصحاب الدخول الهنود 5.5 في المائة فقط يدفعون ضرائب الدخل، ونحو 85 في المائة من الاقتصاد خارج شبكة الضرائب. ويبدو أن أمل مودي سيكون الانقباض النقدي الذي يجبر كثيرا من الشركات على البدء في استخدام المصارف أو المدفوعات الرقمية، حيث يمكن رصد دخلها. يقول داسجوبتا: "إنه حقا علاج بالصعق، إعلان الحرب الشاملة بطريقة معينة على تصريف الأعمال". ويضيف: "لكنها مخاطرة سياسية ضخمة. التجار هم أكبر قاعدة سياسية لديك وأنت ألحقت الضرر حقا بالتجار أكثر من غيرهم. إنهم لا يعتبرون ذلك مالا غير مشروع. فهم يتعاملون على هذا النحو منذ أجيال". تعلق الهنود بالأموال النقدية - والميل إلى إخفاء دخلهم - يعود إلى الحقبة الاشتراكية لإنديرا غاندي في السبعينيات، عندما ارتفعت معدلات ضريبة الدخل إلى نحو 98 في المائة وكان لدى المسؤولين الحكوميين سيطرة واسعة على الشركات. وانخفضت معدلات ضريبة الدخل بشكل حاد منذ ذلك الحين. لكن شراء العقارات لا يزال يخضع لضرائب باهظة، الأمر الذي يقدم للمشترين والبائعين حافزا مشتركا للتقليل من قيمة العقارات. ويحتفظ المسؤولون بسلطات تقديرية واسعة، غالبا ما تستخدم لجمع ثروة غير مشروعة. يقول سورجيت بهالا، وهو محلل أول لمنطقة الهند لدى مجموعة أوبزفاتوري، وهي مؤسسة استشارية اقتصادية مقرها نيويورك: "ليس هناك شخص في الهند لم يتعامل بالمال غير المشروع". ويعترف بهالا بأنه رضخ لضغوط في التسعينيات حين دفع 300 ألف روبية إلى مسؤول في البلدية في دلهي حجب عنه إذن بناء منزل لمدة عامين. وبحسب قوله "لقد أنشأنا بيئة أجبرت الجميع أن يكون فاسدا". وسبق أن أبطلت الهند قيمة بعض الفئات في محاولة لإخراج الأموال غير المشروعة. ففي عام 1978 ألغت نيودلهي ما كان في ذلك الوقت فئات نقدية بقيمة عالية حقا – فئات نقدية بقيمة 1000 روبية وخمسة آلاف روبية وعشرة آلاف روبية كانت تشكل في ذلك الحين 2 في المائة من كامل المعروض النقدي في الهند - وأعطت لأصحابها مهلة أسبوعا لمبادلتها. وفي الآونة الأخيرة تبنى نشطاء مكافحة الفساد فكرة أن الهند بحاجة إلى جولة أخرى من هذا الدواء. ومع ذلك كان راجورام راجان، محافظ البنك الاحتياطي الهندي الذي رحل أخيرا، يشكك في فعالية إبطال الفئات النقدية باعتبارها وسيلة لتطهير المال غير المشروع من الاقتصاد. ويعتقد أن معظم الثروات غير المشروعة في الهند يتم حيازتها في العقارات والذهب، وليس في أكياس النقود التي تصورها أفلام بوليوود. وقال قبل عامين: "إحساسي هو أن الأذكياء سوف يعثرون على طرق للالتفاف على ذلك. إنهم يجدون طرقا لتقسيم كنزهم إلى عدد كبير من الأجزاء الصغيرة (...) ليس من السهل القضاء على الأموال غير المشروعة". ومن غير الواضح ما الذي أقنع مودي باتخاذ هذه المناورة. لقد حاول معلم اليوجا المؤثر، بابا رامديف، أن ينسب الفضل لنفسه. لكن آخرون يشيرون إلى أن البطل الحقيقي وراء ذلك كان أنيل بوكل، وهو محاسب أنشأ ArthaKranti المؤسسة الغامضة غير الربحية التي تتخذ من بيون مقرا لها. وقد اكتسبت نفوذا في الأوساط اليمينية مع رؤيتها لإعادة هيكلة جذرية للاقتصاد الهندي، بما في ذلك إلغاء الأوراق النقدية ذات الفئات الأكبر من 50 روبية، وإلغاء ضريبة الدخل. ويقال إن بوكل كان لديه هذا الصيف لقاء مع مودي استمر قرابة ساعتين. وقال سوراب موكرجي، الرئيس التنفيذي لشركة أمبيت كابيتال للسمسرة في مومباي: "في الهند، إذا كنت تضغط بشدة كافية مع مكتب رئيس الوزراء وتقول ليس لدي أي مصلحة مكتسبة، تحصل على بضع دقائق لتقديم فكرتك. لم يكن هناك نقاش حقيقي حول هذا الموضوع، ولم يبحث أي خبير اقتصادي تقليدي الفكرة - وبالتأكيد ليس على النطاق الذي تجري به الآن". ويتفق اقتصاديون على أن أزمة السيولة المفاجئة ستكون ضربة موجعة للاقتصاد في البداية. ويقدر محللون أن الحظر المفروض على الفئات النقدية سيجرد الاقتصاد من نحو 1 في المائة من نمو الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية الحالية التي تنتهي في آذار (مارس). وقال عزيز: "هذا يعتبر صدمة ومفاجئة سلبية كبيرة تأثيرها على النشاط الحقيقي سيكون كبيرا وسلبيا على المدى القصير". ووفقا لدويتشه بانك، انخفضت مبيعات السلع الاستهلاكية سريعة الحركة بنسبة 30 في المائة في بعض المناطق، في حين توقفت مبيعات السلع الاستهلاكية المعمرة في البلدات الصغيرة. ومعظم أسطول الشاحنات في الهند، التي تعتمد على التدفقات النقدية لرسوم المرور والضرائب، تقطعت به السبل على الطرق السريعة. يقول راجيف لال، الرئيس التنفيذي لمصرف IDFC: "جميع أنواع الشركات التي تعتمد في تعاملاتها على النقد ستتعطل أعمالها". كذلك تضررت أسعار العقارات بصورة بالغة، مع تبعات بالنسبة لقطاع العقارات الذي يحتاج إلى أيد عاملة كثيرة. وعلى المدى الطويل، يعتبر هذا بشرى سارة بالنسبة للطامحين لشراء مساكن. يقول موكرجي، من شركة أمبيت: "في المتوسط، من المرجح أن نرى تصحيحا بنسبة 50 في المائة في أسعار العقارات السكنية". الأثر الكامل للصدمة السلبية يتوقف على مدى السرعة التي تستطيع بها الحكومة نشر الأموال النقدية البديلة. وحتى الآن العملية بطيئة بشكل مضن، على اعتبار أن كل جهاز من أجهزة الصرف الآلي يحتاج إلى إعادة معايرة باليد من أجل تقبل الفئات الجديدة، التي هي ذات حجم أصغر قليلا من الفئات القديمة. ويقول لال: "أنت بحاجة إلى أن تجد حلا، وبأسرع ما يمكن، للتحدي المتمثل في إدخال عملة جديدة إلى السوق". على الرغم من الصعوبات، يعتقد كثير من الاقتصاديين، وحتى الهنود العاديين، أن علاج الصدمة الذي يطبقه مودي سوف يؤدي إلى منافع على المدى الطويل. فالمستويات الأعلى من الودائع المصرفية يمكن أن تسهل فرض أسعار فائدة أدنى وزيادة كبيرة في الإقراض، في حين أن الشركات التقليدية ستكون معرضة لضغط العثور على بدائل للنقد والوقوع تحت الشبكة الضريبية. ويقول راجيف مالك، وهو اقتصادي أول لدى CLSA: "هناك حجة اقتصادية تقول إذا أعدت الأموال غير المشروعة إلى الاقتصاد الرسمي، فإن هذا سيعمل بالتأكيد على تحسين أوضاع المالية العامة". ولا أحد يعلم المقدار الذي سيعود إلى المصارف من النقود الملغاة، ومقدار النقود التي سيتم تطهيرها من النظام. ويدعي المتهكمون أن الهنود من الطبقة العاملة الذين يصطفون عند المصارف لتبديل مبالغ تصل إلى 4500 روبية هم "بغال"، حيث يتلقون أجرا من الأغنياء ليتولوا غسل أموالهم. والأشخاص الآخرون الذين لديهم فائض من النقود غير المشروعة يخاطبون الأصدقاء وأفراد العائلة لمساعدتهم في إدخال أموالهم إلى النظام المصرفي – ويعرضون عليهم سعرا جيدا. يقول خبراء إن حظر الفئات النقدية لن يفعل شيئا يذكر لإيقاف دخول تدفقات جديدة من الأموال غير المشروعة. ماليش ريواريا، الذي يبيع ملحقات أجهزة الهاتف من كشك صغير، يقول إن مبيعاته تراجعت 60 في المائة بعد الحظر، وإنه لم يستعد هذه النسبة المفقودة حتى الآن. مع ذلك هو يؤيد قرار مودي ويقول: "الذين سيشعرون بالقلق هم فقط الذين لم يكونوا يدفعون الضرائب ويسرقون من الحكومة. وأنا من هذه الفئة. كنت دائما أرغب في دفع الضرائب بصورة عادلة، لكن كنت أقول في نفسي لماذا ينبغي أن أفعل ذلك طالما الآخرون فاسدون إلى هذه الدرجة؟".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES