أبرز تحديات وزارة المالية

يأتي محمد الجدعان في زمن يحمل تحديات مختلفة على أكثر من صعيد. فهناك تغير جيلي، وهناك تغير معتبر في الأولويات الاقتصادية والمالية، وهناك تغير في الدورة النفطية وربما تغير هيكلي في دور وأسعار النفط، وهناك تغير في القيادات الاقتصادية والمالية، وهناك تغير في العلاقة بين الأجهزة الفاعلة في القطاع العام. يعرف عن محمد الجدعان إخلاصه وتفانيه في العمل كما أثبت في هيئة السوق المالية، فبعد مرحلة التأسيس شهدت الهيئة تغيرا ملحوظا في الكفاءة والنشاط. تحدي وزارة المالية نوعي وفي مدار آخر. لا نريد التوقف كثيرا حول تجربة العقدين الماضيين ولكن علينا التطلع إلى حقبة جديدة مملوءة بالأمل والطموح. بين المتغيرات والطموح هناك تحديات كبيرة ومتنوعة تواجه الوزير النشط. في نظري هناك أربعة تحديات رئيسة سوف تشغل الوزير في السنوات القليلة القادمة وربما أطول.
التحدي الأول يتمثل في الحاجة إلى التوصل إلى سياسة مالية أكثر ديمومة وتفاعلا مع المستجدات الآنية (التوازن بين المصروفات ومصادر التمويل) من جهة، والاستحقاقات المستقبلية من جهة أخرى في ظل متطلبات "الرؤية" و"برامج التحول الوطني". على الرغم من الانخفاض الحاد في أسعار النفط إلا أن الوضع المالي العام تحت السيطرة ومطمئن بسبب سرعة الحكومة في تقليص المصروفات وحجم الاحتياطيات المالية ومصادر التمويل الأخرى حيث استطاعت المملكة إصدار سندات دولية ولأول مرة كأكبر إصدار لدولة نامية وبتصنيف استثماري مقبول. نظرا لارتفاع المصروفات التدريجي (على مدى السنوات الخمس التي سبقت انخفاض النفط) والحاجة للاستثمارات وانخفاض أسعار النفط أصبحت هناك فجوة مالية غير قابلة للاستمرار ولذلك سوف يستمر التحدي لحين التوصل إلى درجة من التوازن والاستقرار المالي. يأتي تأسيس "مكتب إدارة الدين" كخطوة أولى لمركزية إدارة الخزانة من ناحية والتفاعل مع استحقاقات أدوات الدين العام من حيث السوق الثانوية والتنوع في الأدوات والتصنيف والتوازن بين الدين الداخلي والخارجي. توافر المعلومة ودقتها في المصروفات والالتزامات يتطلب تعاون كل الأجهزة الحكومية خاصة بعد أن فقدت وزارة المالية جزءا من بريقها. التحدي الثاني تنظيمي فبعد أن بدأت المملكة الانتقال من مركزية وزارة المالية إلى حالة أكثر توازنا مع الاستحقاقات الاقتصادية لن يكون الانتقال دون مطبات وصعوبات، فبعد أن كانت العربة أمام الحصان لمدة طويلة لن يكون الحصان في وضع مريح إلا بعد فترة استئناس معتبرة خاصة أن مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية ووزارة الاقتصاد والتخطيط ووزارة الطاقة بدأوا بأدوار مختلفة نوعيا عن دور وزارة التخطيط المستكين تاريخيا، كما أن التنافس بين البيروقراطيين من علامات العصر في كل الدول (الاقتصادية: عملية صنع القرار الاقتصادية، تاريخ 7 فبراير 2006 ). الحالة التنظيمية تبدأ من وضعية تاريخية حين أنيط بوزارة المالية إدارة مشاريع ليس اعتياديا في دائرة الإدارة المالية وأقرب أن تكون استثمارية إنشائية (الاقتصادية، مؤسسة مالية في الظل: صندوق الاستثمارات العامة، 4 ديسمبر 2007 ). هذا الخلط قلل فعالية الحوكمة، وهذا الخلط والنقص ساعدا على تقويض القدرات البشرية والتحليلية خاصة في قلة التأهيل والإعداد البشري. التحدي الثالث في الطاقات البشرية، أحد إفرازات المركزية المالية أنها تحتم درجة من الانغلاق وبالتالي يصبح فرز الطاقات البشرية والانفتاح على المواهب محدودا. حين بدأت الخطط الخمسية الأولى بدأت نواة تكنوقراطية طيبة عبر عنها التعاون مع مصرف شيس منهاتن في الصندوق الصناعي وامتد هذا التعاون البشري لصندوق الاستثمارات العامة وكانت هناك محاولة جادة لتطوير معهد الإدارة العامة، ولكن تدريجيا ولأسباب مختلفة فقدت هذه التنظيمات قوة العطاء وحتى الكفاءة وامتد ذلك إلى استثمارات الحكومة. مع هيكلة وتحجيم الوزارة في الفترة القصيرة الماضية بدا وكأن الوزارة قليلة الكفاءات. الغريب أن مؤسسة النقد حققت تقدما من خلال البعثات والمعهد المصرفي بينما الوزارة لم تهتم كثيرا بالتأهيل عدا إرسال قلة لتمثيل المملكة في صندوق النقد أو البنك الدولي الذي هو عادة تمثيل أكثر منه إعداد عملي.
التحدي الرابع يتمثل في دور الوزارة في أكثر من مساحة ولكن رأيت أنها تجتمع في تحد واحد. فمثلا بعد أن يبدأ القرار الاقتصادي مستقلا عن القرار المالي كذلك لابد للقرار المالي أن يستقل تدريجيا عن السياسات النقدية لأن الاقتصاد سوف يكون أكثر تعقيدا ما يحتم وضوحا أكثر في استقلالية مؤسسة النقد. من الناحية الأخرى جرت العادة على أن تكون الميزانية لسنة واحدة بينما كثير من الالتزامات المالية تمتد لأكثر من عام مالي سواء أن كانت استثمارية أو مصروفات جارية، وكذلك الدورة النفطية أطول من عام مالي واحد كما أثبتت السنوات القليلة الماضية، وبالتالي لعل الأنسب أن تصدر الميزانية لعامين وأن تكون إرشادية لثلاث سنوات بعد ذلك، كذلك لابد للميزانية أن تكون أكثر تفصيلا بين الاستهلاك والاستثمار (خاصة أن إعلان الميزانية تاريخيا لا يشمل استثمارات "أرامكو" و "سابك" وغيرهما وهذه شركات حكومية في الجوهر) وبين الثابت والمتغير ودور الدخل من النفط مقابل المصادر الأخرى خاصة أن هذا أحد أهم أهداف التحول الجديد. استشرافيا قد تكون إدارة الميزانية مستقلة في مرحلة لاحقة.
تأخرت وزارة المالية لأسباب كثيرة وحان الوقت للوزير الجديد للتصدي للتحديات المتراكمة. أنا متفائل بأنه قادر على مواجهة هذه التحديات والأخذ بالمملكة مع الوزارات الفاعلة الأخرى اقتصاديا إلى مدار عال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي