فن التداوي .. تعاقبت حضارات على ابتكاراته واليوم يحتكر الغرب إيراداته
فن التداوي .. تعاقبت حضارات على ابتكاراته واليوم يحتكر الغرب إيراداته
كم مرة ينتاب الواحد منا صُداع أو يتعرض لإنفلونزا أو يصاب بجرح، فيعمد لتناول قرص مُسكن أو مضاد حيوي أو مرهم دهني. تنخفض بعدها وبشكل تلقائي حدة الألم أو تلتئم إصابة الجرح، وهكذا يسترجع البدن صحته وسلامته. دون أن يتساءل -ولو للحظة- عن السر وراء ذلك، أو يفكر في أصول أو تاريخ صناعة العقاقير.
يشكل الدواء اليوم أحد أضلاع مربع الحياة مع الطعام واللباس والسكن، حتى عُدت صناعة الأدوية والعقاقير من أهم الصناعات العالمية في عصرنا الراهن؛ تتصدرها الولايات المتحدة متبوعة بالصين، فهل من محطات كبرى لنا أن نتوقف عندها في مسار هذه الصناعة التي أضحت تنافس صناعة الأسلحة في الأرباح؟
ترجح بعض الروايات أن شعوب ما قبل التاريخ استعملت الأدوية، بعدما اكتشفت قدرة بعض النباتات على تسكين الآلام وعلاجها بعض الأمراض. ويقدر أن تكون ملاحظة شفاء حيواناتهم العليلة بعد التهام أنواع من الأعشاب مصدر اكتشاف فن التداوي.
مع الدخول في الحضارة نجد أن أول سجل مكتوب لاستعمال الأدوية يعود إلى الحضارة السومرية؛ قبل ألفي سنة، وجاء في شكل لوح يحوي 21 وصفة علاجية. من جهتهم تمكن الفراعنة من جمع أكثر من 700 دواء، بينما طور الرومان الأمر قليلا حتى بلغوا درجة كتابة الوصفات الطبية محددين كمية كل مادة في الدواء.
شهد القرن السادس قبل الميلاد ولادة أبوقراط الملقب بأبي الطب والصيدلة، الذي رفض الاعتقاد بأن القوى الخارجة عن الطبيعة، والخوارق هي علة الأمراض التي تصيب الأفراد، مستبدلا ذلك بنظريته التي ترُد الأسقام إلى عوامل طبيعية.
#2#
بعيدا عن حضارات الأبيض المتوسط، كانت للصين بصمة في عالم الصيدلة هي الأخرى، فإبان حكم سلالة تانغ؛ ما بين القرن الثامن والعاشر الميلاديين، تطورت علوم الصيدلية بفضل الرعاية الحكومية، ما أفضى إلى تأليف أول دستور للأدوية في العالم تحت عنوان "كتاب تانغ للأعشاب الطبية". وتضمن 850 دواء، مرفوقا بصور بيانية وشروح توضيحية.
وأصدر الصينيون حديثا جدا "القاموس الكبير للعقاقير التقليدية الصينية" عام 1977، وحوى هذا العمل رقما ضخما، وصل إلى 5756 نوعا من العقاقير الطبية التي تم تجميعها من كلاسيكيات التراث الطبي الصيني منذ القدم.
عودا إلى التاريخ، وتحديدا لدى المسلمين الذين كانت مساهماتهم نوعية في تطور الطب والصيدلة، فهذا ويل ديورانت يحكي -في المجلد 24 من قصة الحضارة-: «إن المسلمين أدخلوا الملاحظة الدقيقة، والتجارب العملية، والعناية برصد نتائجها في الميدان الذي اقتصر فيه اليونان- على ما نعلم -على الخبرة الصناعية والفروض الغامضة، فقد اخترعوا الإنبيق.. وحللوا عددا لا يحصى من المواد تحليلا كيميائيا، وميزوا بين القلويات والأحماض.. ودرسوا مئات من العقاقير الطبية. ومن الأدوية المركبة الحقنة.. وكذلك المراهم التي يعالج بها الجراحات والقروح، وكثيرا ما نجد عبارة "جربته" عند وصفهم للأدوية».
من جهته عمد الخوارزمي إلى تصنيف الأدوية الشائعة في عصره تصنيفات نوعية، فنجده يتحدث عن: أدوية معجونة ومطبوخات وحبوب ولعوقات وأضمدة وأطلية وأدهنة وأشربة. ووضعوا من قواعد السلامة الصحية ما أضحى الآن من أدبيات منظمة الصحة العالمية. وذلك مثل قول أحدهم: «لا تشرب الدواء إلا وأنت محتاج إليه، فإن شربته من غير حاجة. ولم يجد داء يعمل فيه، وجد صحة يعمل فيها، فيحدث ضررا»، وقول آخر عن كُره تعدد الأدوية: «مهما قدرت أن تعالج بالأغذية فلا تعالج بالأدوية! ومهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد فلا تعالج بدواء مركب»، ويقول ثالث: «دافع الدواء ما وجدت مدافعا! ولا تشربه إلا من ضرورة! فإنه لا يصلح شيئا إلا أفسد مثله».
قواعد لم تأت من فراغ، فبراءات الاختراع التي من نصيب المسلمين في هذا المجال تعد بالمئات. فأول صيدلية أنشئت في التاريخ كانت ببغداد في القرن السابع الميلادي، في عهد الخليفة المنصور؛ حيث وضع أول جدول صيدلاني استخدِم لاحقا كمرجع، ونموذج لإصدار "دستور أدوية لندن الأول".
#3#
كما أن أطباء ذلك العصر كانوا أول من رأى وجوب فصل مهنة الصيدلة عن الطب؛ في ظل التطور الكبير الذي وصل إليه الطب والدواء حينئذ. في حين انتظرت أوروبا، وفق باينم ويليام في كتابه تاريخ الطب، إلى حدود القرن السابع عشر في عهد فريدريك الثاني إمبراطور ألمانيا وملك صقلية الذي أقدم على إصدار المرسوم الأوروبي الأول، الذي يقضي بفصل مسؤوليات الصيدلي عن مسؤوليات الطبيب مقدما بذلك النموذج الأول للصيدلي الحديث.
ناهيك عن قامات علمية كبيرة لا يزال الغرب إلى اليوم ينظرون إليهم بعين التقدير والاحترام، منهم الزهراوي الطبيب الكبير والصيدلاني الذي يرجع إليه الفضل في صناعة أول قرص دواء في التاريخ. وداود الأنطاكي؛ صاحب كتاب "تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب" الذي تنبه إلى أهمية تاريخ صناعة الدواء، والطريقة المثلى لحفظه كي لا يتسرب إليه تلف أو يتعرض لفساد.
دون أن ننسى طبعا الرجل الموسوعة يحيى بن ماسويه الذي عاصر أربعة خلفاء عباسيين أولهم المأمون، وذكر له ابن النديم من المؤلفات الطبية ما يقرب العشرين كتابا منها: كتاب "دفع ضرر الأغذية"، كتاب "مجسة الورم"، كتاب "البحة"، كتاب "الحميات".
وسطع هذا الاسم كثيرا في أوروبا الوسطى بعد ترجمة عملين له إلى اللغة اللاتينية، أحدهما في الصيدلة تحت اسم "في العقاقير" ويقع في 12 جزءا. والآخر في الطب بعنوان "كتاب المادة الطبية"، الذي اعتبره روجيه دوشيز في كتابه "تاريخ الطب" أقدم دستور أدوية في العالم.
ذاك وبعجالة تاريخ هذه الصناعة التي انطلقت عمليا بداية القرن الثامن عشر، بظهور الصيدليات التجارية ثم تأسيس شركات صناعة الأدوية العالمية التي تناسلت تدريجيا نهاية القرن التاسع. قبل أن تغزو العالم اليوم متجاوزة في أرقام مبيعاتها دخل عديد من الدول.
فإجمالي مبيعات 12 شركة لصناعة الأدوية طبقا لبيانات السنة ما قبل الماضية في العالم بلغ 508 مليارات دولار أمريكي، ما يعادل إجمالي الدخل القومي لدولة مثل السويد أو بولندا أو الأرجنتين أو النرويج. وبصيغة أخرى نقول، إن السعودية هي الدولة العربية الوحيدة التي يتفوق إجمالي دخلها القومي على أرباح هذه الشركات.
أخيرا نشير إلى أن جريدة "وول ستريت جورنال" نشرت مقالة في 29 آذار (مارس) سنة 2000، تعرضت خلاصاتها للتعتيم الإعلامي، تدعي أن مسألة تاريخ انتهاء صلاحية الأدوية مجرد أسطورة، تتعلق فقط بالتسويق والمبيعات والأرباح. واستندت في ذلك إلى اختبارات أجرتها الهيئة الأمريكية للأغذية والعقاقير شملت أكثر من 100 عقار منها ما يحتاج إلى وصفة علاج، ومنا ما يمكن شراؤه بدونها. أوضحت النتائج أن 90 في المائة من هذه الأدوية كانت صالحة للاستخدام، بدون أي خطورة بعد انتهاء تاريخ صلاحيتها.