وأد الإبداع وقتل الابتكار

نقلت صحيفة الاقتصادية عن "الفاينانشيال تايمز" قبل يومين مقالا للكاتبة لوسي كيلاوي بعنوان "وباء الابتكار.. في طريقه إلى الاختفاء". توجه لوسي في هذا المقال نقدا لاذعا لبيئة الأعمال بسبب المبالغة في استخدام المفاهيم الإبداعية والابتكارية. في نظري، الكاتبة نفسها بالغت في الحديث عن مشكلة المبالغة في التعاطي مع الإبداع والابتكار، إذ استخدمت مصطلحات مثل "وباء" و"سخافة" ووسمت المخترعين بالفقر مع أن الأغنياء الجدد اليوم هم مبتكرون مبدعون في مجالاتهم، وهي بالتأكيد تعتمد على التقنيات الحديثة المبتكرة لتكتب مقالاتها وتنشرها بين القراء. الممارسات المبنية على مفاهيم الإبداع والابتكار ضرورة إنسانية وأساس لبقاء الإنسان وتجاوزه تحديات الحياة، هذا ما يذكره التاريخ ويثبته الواقع.
بالعودة إلى النسخة الأصلية من المقال نجد أن لوسي كيلاوي تتحدث تحديدا عن مشكلة التعامل مع الإبداع كمتطلب إلزامي أثناء أداء العمل، فهي ترى أن ممارسة الإبداع محصورة بظروف محددة وتتاح لأفراد محدودين. في الحقيقة، أعتقد أن الزاوية التي تباشر منها لوسي القضية منطقية جدا، مع عدم اتفاقي مع الشواهد والأمثلة والأحكام التي ذكرتها. يهمني جدا طرح المسألة من وجهة نظر محلية. نحن نشاهد وبكثرة من يستغرب من وربما يحارب التوجهات الإبداعية داخل أماكن العمل. ومثل هؤلاء لا يختلفون كثيرا في آرائهم عما تطرحه لوسي، فهم يقولون إن الإبداع ليس للجميع، ومعظم الأعمال لا تتطلب الابتكار، هي مجرد صيحة ويجب أن تتوقف قبل أن نخسر المزيد! أعتقد أن الحصول على الدعم المجتمعي لهذه المسألة مهم جدا، فليس من المنطقي أن ندعو الصغار والشباب للسعي خلف الإبداع والابتكار، ثم ننصح أن يتخلوا عن ذلك عندما تبدأ حياتهم العملية.
يتطلب التعامل مع هذه القضية توليفة مقبولة وملائمة لاحتياجاتنا وقدراتنا، وهذا يعني توازنا في الاقتراب من الإبداع ومشتقاته، دون تقشف أو هدر في فهمه وممارسته. الوصول إلى هذه المرحلة يعني فهما جيدا لمفاهيم الإبداع والابتكار والتفريق بينها مع التصور الجيد لدور المنزل والمدرسة والجامعة وأماكن العمل، ناهيك عن الإعلام والجهات المسؤولة الأخرى والنشاطات الجانبية المحفزة للعملية الإبداعية. لا يوجد ما يمنع ــــ إلا عند التقليل من الذات ـــ أن نسعى وبجدية لاستحضار بغداد جديدة واستنساخ فلورانسا أخرى أو واد جديد للسيلكون في بلداننا، وإذ لم نسمح بفتح باب الإبداع على مصراعيه لن نتمكن حتى من البدء في ذلك. من الطبيعي أن تكون البدايات مجنونة بعض الشيء بحثا عن مرحلة التوازن، ولكنك لن تجد من يبحث عن التوازن وهو لم يبدأ بعد ولن تجد من يحاول ضبط شيء غير موجود.
لم تجانب الكاتبة في مقالها الصواب حين عرجت على المشكلات التي قد يواجهها الموظف مع مديره في مكان العمل حينما يملك الأخير نزعه إبداعية حماسية، وهذا الأمر صحيح ويتطلب معالجة دقيقة من الموظف. ولكنه لا يعني أن يترك أفكاره الإبداعية في المنزل حين يذهب إلى العمل. سخرت كذلك الكاتبة من مقال في مجلة "هارفار بزنس ريفيو" يدعو لتحفيز الموظفين باستخدام مسميات وظيفية مبتكرة، ولا أرى ما يمنع من القيام بذلك خصوصا في المنشآت الصغيرة التي تتسم بعدم الرسمية والأريحية الموجودة في فريق العمل.
محاولة ضبط العملية الإبداعية قبل نضجها هي وأد مبكر لها. نحن نتفهم أن بعض الأعمال لا تفسح المجال للتحركات الإبداعية خصوصا في الأقسام والإدارات التي تعالج كما هائلا من العمليات الروتينية كل يوم، وبعضها الآخر يسمح بالإبداع ولكن ليس في صورته التقليدية للبحث والتطوير. تحسين الإجراءات الإدارية على سبيل المثال يفتح الكثير من أبواب الابتكار المغلقة التي تعود بالنفع المباشر على أداء مؤسساتنا وعلى المستوى العام للإنتاجية، ورفع الإنتاجية وتحسين الكفاءة من أهم ما يستهدف في البيئات الداعمة للإبداع والابتكار. تعبر لوسي كيلاوي عن حيرتها عندما تذكر أن: "هناك 32 ألف وظيفة شاغرة تتحدث عن الابتكار في لندن وحدها، مقارنة بـ 2700 وظيفة فقط تطلب أن يكون الشخص مهذبا، وبالكاد تطلب 300 وظيفة أن يكون متعاونا". أعتقد أنه قد فات عليها أن البحث عن المهارات الإبداعية والابتكارية لدى المتقدمين للأعمال لا يعني أنهم سيمارسون ذلك بشكل فوري ومباشر أو أن كل الشركات تملك معامل ضخمة للبحث والتطوير. اهتمام المتقدم للوظيفة بهذه القيم يعكس قدراته الأخرى المرتبطة بالتحفيز الذاتي والتأقلم السريع والتعلم المهني وهذا هو تحديدا ما يبحث عنه هؤلاء وما نحتاج إليه نحن كذلك في تحفيز بيئة الإبداع والابتكار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي