في رواية «ستونر» .. الحب ظرف يُختَلق ويعدَّل

في رواية «ستونر» .. الحب ظرف يُختَلق ويعدَّل
تظهر العلاقات الإنسانية في الرواية بشكل عام جافة، والإجابات مقتضبة.

"إنها مصحة عقلية، أو ماذا يدعونها هذه الأيام؟ بيت الراحة، للمقعدين والمسنين والساخطين، ومن يعدون من غير الأكفاء في الأماكن الأخرى." عبارة تصف مقدار الإحباط الوظيفي الذي يشعر به طاقم تدريس جامعة ميزوري في رواية "ستونر"، للكاتب الأمريكي جون ويليامز التي خرجت للضوء عام 1965، وتعد من ضمن أدب الروايات الأكاديمية أو التي تنقل أحداثاً في حرم الجامعة، بتفاصيل تغوص في أعماق القلق النفسي والاستسلام. هذه الرواية التي لم يتم تسليط الضوء عليها بما تستحق قامت دار أثر السعودية بنشرها عام 2016، من ضمن سلسلة كلاسيكيات أثر، ونقلتها إلى العربية المترجمة المصرية إيمان حرزالله، وقد قامت بترجمة عدد من الأعمال الأدبية منها رواية الياباني هاروكي موراكامي "كافكا على الشاطئ". ويعد اختيار رواية "ستونر" لترجمتها إلى العربية ناجعاً، فهي تستحق الالتفات. وعلى الرغم من أنها لم تشتهر حقبة الستينيات، ولم تتجاوز مبيعاتها الألفي نسخة في بادئ الأمر، إلا أنه أعيد إحياؤها والتطرق إليها في الصحف الأمريكية والبريطانية عام 2013، وتم إطراؤها من قبل عدد من الكتاب والروائيين أحدهم الروائي البريطاني ماك إيوان في قناة البي بي سي، الذي أشاد بحبكتها وذكر أنه لم يتم تقديرها بما تستحق.
تدور أحداث الرواية حول بروفيسور للغة الإنجليزية في جامعة ميزوري يدعى ويليام ستونر وقد سميت الرواية باسم الشخصية المحورية ستونر، وهي تنبع من تجربة حياتية واقعية للروائي ويليامز ذاته إذ عمل بروفيسورا في جامعة دنفر، ومن عائلة عمل أجدادها بالزراعة. وإن كان قد ذكر في مستهل روايته أن العمل من نسج الخيال ولا حدث واحد له نظيره الحقيقي في الواقع الذي عاشه في الجامعة.
تأتي أحداث رواية "ستونر" بدءاً من اقتراح والديه المزارعين حثه إكمال دراسته الجامعية لتطوير الزراعة، ومن ثم دراسته الجامعية عام 1910 وبداية تعلقه بالأدب الإنجليزي وتغيير مسار دراسته، مروراً بأحداث سياسية محبطة، بدءاً بالحرب العالمية الأولى، ومن ثم حقبة هتلر وفرانكو، وأحداث بيرل هاربر، وإن كان التطرق إلى تلك الأحداث مرتبطا أكثر بتجربة ترك بعض الطلاب وطاقم التدريس الجامعي للمشاركة في الحرب وأعقاب ذلك.
ما ينفرد به البناء السردي للرواية هو الغوص في رحلة شخص غير متميز في أي شيء، لتصبح إخفاقاته وصداماته بالآخرين وخيبة ظنه بهم ملفتة، بنفس روائي قادر على جذب القارئ وجعله يرغب في اكتشاف ما يحدث فيما بعد. لا يوجد أمر مميز في شخصيته أو أحداثه الحياتية، فمنذ استهلال الرواية: "قليل من الطلبة يتذكرونه بوضوح كاف بعد أن درسوا على يديه".
يظهر استعراض جميل لحيرة ستونر المستمرة وعدم حيازته أي هدف في الحياة أو أي تخطيط للمستقبل، مجرد شعور ببطء الوقت وإحباط مستفحل وفقدان الإحساس بالحماسة تجاه أي شيء. "لكن ذلك لك يعني له سوى أن عليه، في العام المقبل أيضاً، أن يقوم بما قام به في العام الأول". فيما تظهر أحداث حياتية مفصلية دون أي وقع على نفسيته. كوصف ستونر لحفل تخرجه وكأنه لا يؤثر في أي مشاعر داخله: "حين نودي باسمه وسار على المنصة، ليتلقى لفافة ورق من رجل بلا وجه مميز خلف لحية رمادية ناعمة." إضافة إلى تعبير ستونر المستمر عن اندهاشه إذا ما تذكر ماضيه وشعوره بأنه كائن غريب لا يفهم ذاته، كنظرته لوالديه اللذين يعدهما غريبين عنه. انهزاميته قد تعلل محاولات للتمرد على ذلك، في أحداث تعد غريبة، كمحاولاته أن يتنمر ويعامل الطالب تشارلز ووكر ذي إعاقة جسدية بفظاظة متعمدة في محاولات لإحباط الطالب. وإن أبدع الروائي في نقل الصورة من منظور ستونر الذي يتخيل ووكر وهو يسخر منه ويحدجه بنظرات مستفزة، فيما يقع القارئ في تعاطف تارة مع ستونر الذي يواجهه مدير القسم باتهامات، وتارة أخرى مع الطالب ووكر.
تميز أسلوب الكتابة كونه أسلوبا صادما أشبه بالمتبلد المتجرد من المشاعر، بتقريرية براجماتية متوحشة، ونقل للأحداث من منظور ويليام وهو شخصية غير قادرة على تكوين علاقات إنسانية وطيدة، بل يظهر وكأنه يتسبب بإرباك وعدم ارتياح الآخرين بالأخص في بداية تعامله معهم. تظهر العلاقات الإنسانية في الرواية بشكل عام جافة، والإجابات مقتضبة بمحاولة لاختصار الأحاديث بينهم قدر الإمكان، وشعور مستمر بالوحدة الممتزجة بالغربة الشديدة مع الآخرين. والتواصل مع الآخرين شبه منعدم، ما ينعكس بإخفاقات مستفحلة في الحب والعمل. "أدرك خلال شهر أن زواجه فاشل." ومحاولات يائسة لإنقاذ المتهشم منها: "بقسوة هادئة ناجمة عن يأسه، جرّب طرقا صغيرة لإسعادها." وقد يعكس ذلك اختيارا مستمرا لشخصيات ضعيفة، إذ يصف ويليام باستمرار ملامح الإناث اللاتي يجذبن انتباهه بأنهن هادئات بسحنات شاحبة تحمل إرباكاً وقلقاً داخلياً فيما يشير إلى هشاشة داخلية أو اختيار لهن نتيجة انعدام الثقة بنفسه إذ يكرر أنه: "لن يهتم به أحد اهتماماً يفوق العادي". وأنه يتوقع أن الآخرين يجدونه مضحكاً. مما يبرر سبب انجذابه لزوجته إديث التي تظهر فيما بعد غير قادرة على إتقان أي شيء، على الرغم من محاولاتها الجاهدة المستمرة، التي سرعان ما تنهيها لتلتفت لاهتمامات أخرى فاشلة. الحب الفعلي في حياة ويليام لا يظهر إلا في مرحلة متأخرة من حياته بعد دخوله الأربعين، وبما يبدو وكأنه بطء استيعاب حتى للمشاعر، إذ حتى تعرفه على مشاعره تجاه كاثرين لم يحدث إلا ببطء بدأ يدرك بعده: "أن الحب لا هو بحالة إجلال ولا هو بوهم، بل تحرك إنساني نحو الصيرورة، ظرف يتم اختلاقه وتعديله يوماً بعد يوم، ودقيقة تلو الأخرى، بالإرادة والعقل والقلب".
من جهة أخرى يظهر الروائي جون ويليامز قدرة بديعة لوصف تفاصيل المكان، الذي تركز ما بين المزرعة في البداية وحرم الجامعة فيما بعد في إيجاد أجواء لأماكن عتيقة قديمة، كانبعاث الروائح والرطوبة ما يرمز إلى قدمها. فذلك القدم يعكس إحباط الشخصيات غير المؤثرة والمنعدمة الإحساس بمضي الوقت. "بعد فترة تملكته حالة من الخدر، فقال لنفسه إنه سيكون على ما يرام." شخصيات محبطة، كشخصية البروفيسور آرشر سلوان الذي قام بتدريس ستونر وأصبح فيما بعد قدوته، على الرغم مما يبدو عليه أنه ينظر إلى مهمته كمدرس بازدراء واحتقار باديين. أما في أحداث أخرى في العمل الروائي يصف حالة سلوان بأنها "إشارة صامتة أخيرة تنم عن حب وازدراء لعالم خيب أمله على نحو عميق لم يستطع تحمله".
وعلى الرغم من أن ستونر لا يظهر إلا في حالة انصباب لجل تركيزه واهتمامه على العمل الأكاديمي، إلا أنه يبدو وكأنه هرب من واقع الحياة، أو نتيجة لانفصال تام عن الحياة، ما يفضي إلى استمرار شعوره وكأنه شخص آخر لا علاقة له بحياته. ليصبح شغفه الوحيد هو التدريس على الرغم من إحباطاته في هذا المجال، الأمر الذي دفعه مقاومة كل من يحاول إيقافه عنه حتى وقت استحقاقه التقاعد. فالتدريس يعطيه الشعور الوحيد: "بالحماسة الغريبة والروحانية لطالب العلم".
تمكن الروائي ويليامز من جعل حياة تدريس رتيبة لشخص عادي ملفتة للانتباه ببناء سردي استثنائي يصف حالة متأخرة من المحاولات. لبذل جهود يائسة في سبيل تحقيق السلام في العمل وفي الحياة الخاصة، مع إذعان واستسلام لوقائع الحياة.

الأكثر قراءة