الأسرة .. مصنع من نوع فريد

الأسرة هي اللبنة الأولى لبناء المجتمعات، وإذا بذلت الأمم المجهود اللازم للاهتمام بالأسرة استطاعت أن تبني مجتمعا منتجا، طموحا، صحيحا يحب الحياة ويعترف بالجميل ويقدر الصنيع. والعكس يحدث تماما إذا أهملت الأمم والمجتمعات العائلة والعناية بها فسينتج ذلك مجتمعا مفككا، حاقدا، متكاسلا، محبطا، يشعر بالغضب لأنهم (الأسر كأفراد) يرون أن سبب ما آلوا إليه ووصولهم إلى هذا المنحدر من حولهم من آباء وأمهات ومؤسسات تربوية ومعلمين ووسائل إعلام وغيرهم فينتقمون من الجميع بدءا من المحيطين بهم من الأم التي أرضعت ومن الأب الذي رعى، ثم البيئة الخارجية الصغيرة من أقارب وجيران، ويتعدى ذلك الانتقام إلى أن يصل البيئة الخارجية من مدارس ودور عبادة ومؤسسات الدولة لا لسبب إلا لشعورهم أن هؤلاء جميعا أهملوهم وقد كان من الممكن أن يفعلوا شيئا لتنميتهم وتربيتهم وتعليمهم وتهذيب سلوكهم.
فلا يخالجنا العجب ولا الدهشة عندما نسمع عن ابن قتل أباه وآخر ضرب أمه ومجموعة أحرقت مدرسة وثلة سطت على بنك ليس لحاجة أو فاقة بل انتقام من كل ما يمثل البيئة المحيطة ويمت إليها بصلة.
والتزاوج والإنجاب معجزة إلهية وسنة كونية يستطيع كل إنسان فعلها لأن غريزة البقاء تحرك الذكر والأنثى للالتقاء وبعدها يد الله هي التي تقدر المقادير وهو سبحانه الذي يرزق الذرية فيهب لمن يشاء الذكور ويهب لمن يشاء الإناث أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما لحكمة لا يعلمها إلا هو فلا يتدخل في ذلك لا الأب ولا الأم ولا الطب ولا القريب ولا البعيد فهذه قدرة إلهية لا نستطيع أن نفعل حيالها أي شيء. مهمتنا التربوية كآباء وأمهات تبدأ بعد تمام الخلق واكتمال هذا الصنع العجيب وهذه الهدية العظيمة من رب الأرض والسموات العلا.
إذا من بعد التقاء الرجل بالمرأة حتى الإنجاب لا يمكننا التحكم فيها أو السيطرة عليها أو تغيير مسارها وما علينا إلا أن ننتظر حتى قدوم الحدث السعيد وبعدها تبدأ وظيفتنا كآباء وأمهات في تقاسم الأدوار من أجل الرعاية والتربية والتوجيه. البعض منا يهمل في العناية المنضبطة بالأولاد والبنات ويرى طالما رزقه الله الذرية فهذا يكفي وهو يعلم أو لا يعلم أن المخلوق الجديد الذي هو "الأب" سبب وجوده يعتبر جزءا من منظمة الأسرة. اللبنة الأولى من لبنات المجتمع تحتاج إلى رعاية وتعهد وتربية ورقابة وإشراف، وكلما زادت المدنية تطورا زادت هذه المهمة تعقيدا. إن بناء أسرة ناجحة في هذا العصر الذي اتصل العالم ببعضه من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه ليس بالأمر الهين على الإطلاق فهو مشروع ضخم ومعقد ومتشابك، فلم يعد الأب والأم هما المؤثران الرئيسان في سلوك البنين والبنات بل هناك عوامل عديدة نعرف بعضها ونجهل الكثير منها.
ولكن ليس معنى هذا أن نستسلم ونترك مهمة تربية أبنائنا للعوامل الخارجية بل علينا أن نؤدي دورنا كآباء وكأمهات مستعينين أولا بالله الذي أهدانا ما بين أيدينا، ثم نبذل المجهود في أداء هذه المهمة بصدق وإخلاص وتعب ونصب. فرغم صعوبة مهمة التربية إلا أنه عمل ماتع ومبهج ومشوق عندما نرى تلك المتغيرات التي نريدها قد حدثت على سلوك وشخصية الطفل تظهر يوما بعد يوم فنشعر بروعة الإنتاج ولذة الإنجاز.
إن مهمة الأب لم تعد مهمة تربوية فحسب بل مزيج من مهام إدارية وتمويلية وتسويقية وغيرها. وقد تم التركيز علميا ومعرفيا على الجانب التربوي وأهملت النواحي الإدارية والمالية والإنتاجية للأسرة. الأب لابد أن يكون قائدا وفي الوقت نفسه مربيا ورجل تمويل وتسويق، فمن أراد أن يكوِّن أسرة ناجحة بمقاييس العصر فعليه أن يلم بشيء من كل هذا. علينا كآباء وأمهات أن ننظر إلى بيوتنا وكأنها مصنع لإنتاج السيارات أو الحاسبات أو الثلاجات، حيث تدخل مجموعة من المواد ليس بينها علاقة ويتم تشغيلها بطرق ووسائل متعددة فتنتج سيارة أو طائرة أو حاسبا آليا أو غير ذلك. وقد يستغرق هذا الإنتاج أياما أو أشهرا كحد أقصى وقد يكون بها منتجات معيبة فتعود من جديد في النظام الإنتاجي بكل سهولة حتى تستوفي شروط المواصفات المطلوبة. علينا كآباء وأمهات أن ننظر إلى كل فرد من أفراد الأسرة على أنه مُنتَج من المصنع (البيت). كل فرد يخرج من بيت الأسرة بعدما يشب عن الطوق يعتبر منتجا ولكنه ليس منتجا عاديا يمكن إعادة إنتاجه أو إصلاحه إذا لوحظ فيه عطب كما هو الحال في المصانع، بل مُنتَجا فريدا بمواصفات خاصة تستغرق عملية تشغيله حتى يصبح ذا قيمة مضافة سنوات من العمل والتربية والتوجيه والصبر. والكارثة هنا عندما يكون منتجا فاسدا فهذا تصعب إعادة تشغيله (إعادة تربيته وتوجيهه) ويصبح ضرره أكثر من نفعه، بل يتعدى ضرره بيئته الصغيرة في المنزل إلى المجتمع بكل أفراده ومؤسساته. إذا نتيجة ومخرجات التربية لا تظهر مبكرا بل تأخذ سنوات وإذا حدث خطأ فهو كارثي، وعادة ما تكون الحلول الإصلاحية في مجال التربية غير مجدية فغالبية وسائل التربية استباقية ووقائية.
إذا هذا أحد الجوانب الإدارية في مجال التربية ولعلنا نطلق عليه الجانب الإنتاجي، وهناك جوانب أخرى تهم الأسرة مالية وتسويقية ومعرفة البيئة الخارجية والداخلية وطريقة تصرف الأموال العائلية وغيرها كثير. نتمنى من المهتمين بهذا الجانب التركيز والنظر من هذه الزاوية حتى تسهل تربية وتوجيه الأسر في عصر المعلومات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي