المخطوط العربي .. صورة للحضارة المنهوبة
ليس مبالغة في شيء القول إن التاريخ الإنساني يشهد بكون أي من الحضارات التي عرفها لم تفرط في تراثها الثقافي والفكري إجمالا، والمكتوب منه على التخصيص كما فعلت الحضارة العربية. لقد كان المخطوط العربي على مدار التاريخ مرادفا للتلف والضياع والإهمال والغبار بسبب الحروب والفتن والصراع السياسي.
واقع جعل جواهر ما خطته أنامل العرب، ونفائس إبداعات عقولهم الفذة، وذخائر مثقفيهم على امتداد الحقب والعصور، وفي ميادين شتى من الأدب والفلسفة والطب والفلك والجغرافيا والمواقيت والموسيقى والتصوف وفنون الصيد.. وما إلى ذلك من المجالات التي أبدع فيها الآباء والأجداد الأوائل غاية الإبداع.
جعل كل ذلك الإرث يحل ضيفا على كبريات الخزانات العالمية المنتشرة في الأركان الكبرى للعالم (أوروبا، آسيا، أمريكا) في وضعية لاجئ أو ما شابه ذلك، مع إعمال القاعدة القانونية التي تفيد بأن "الحيازة سند الملكية" في مثل هذه الأوضاع. أي أن استيلاء هؤلاء على هذه الممتلكات التي لنا على ملكيتها ألف دليل ودليل؛ من لغة كتابتها، وأصول مؤلفيها، والشواهد التاريخية المؤكدة للاشرعية الحصول عليها .. إلى غيرها من الحجج المثبتة أحقية العرب لها. يسقط هذا الاستيلاء كل حق لنا في المطالبة بها، ويتنكر لشواهد التاريخ بنقل ملكيتها إلى من يمتلكها، وإن تم ذلك عن غير وجه حق.
يتشح الغيورون بالسواد على إرث ثقافي عربي نثر جراء ضائقة مالية أو نزوة نفسية أو صراع سياسي في خزانات العالم، حيث تحول إلى لآلئ تزين رفوف منصات كبريات المكتبات، وتتصدر مقدمات الخزانات العالمية. فالمتتبع لخريطة المخطوطات العربية يجدها اليوم منتشرة عبر مكتبات العالم دون تمييز، من روسيا إلى فرنسا مرورا بإسبانيا وإيطاليا وصولا إلى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
في هذا الصدد، يذهب كولين ف. بيكر كبير القائمين على دراسات الشرق الأوسط في المكتبة البريطانية إلى احتوائها على قرابة 15 ألف مخطوطة مصنفة في نحو 14 ألف مجلد. وتحظى هذه المجموعة بإشادة عالمية باعتبارها واحدة من أكبر وأرقى المجموعات في أوروبا وأمريكا الشمالية، وقد رصد لها جناح خاص في المكتبة باسم "خزانة كنوز التراث العربي والإسلامي".
نذكر من ضمن مشمولات هذه المكتبة نسخة من القرآن الكريم، تعود إلى القرن السابع الميلادي؛ ويرجح أن تكون أقدم نسخة عليها إثبات علمي. كما تحتفظ بنسخة أخرى بالخط الكوفي تعود إلى القرن التاسع الميلادي، وهي أبهى نسخة مزخرفة بالذهب تظهر روعة الخط العربي.
وعن علاقة بريطانيا بنهب المخطوط العربي، نشير إلى أشهر لص بريطاني تفاخر بنقل أكثر من 1200 مخطوط من العراق إلى مكتبة المتحف البريطاني، وجاء إلى هناك في جبة رحالة ومستكشف وقد طبع لاحقا "رحلته" وختمها بقائمة تتضمن عناوين المخطوطات التي هربها إلى بلاده. سارق آخر في هذا المجال، يدعى يهود البغدادي الذي باع في الماضي القريب جامعة برنستون الأمريكية عام 1943 أزيد من ستة آلاف مخطوطة عربية إسلامية مقابل 27 ألف دولار أمريكي. أما الإسبان فكان التاريخ جانبهم، حيث غنموا خزانات ملوك الطوائف ومسلمي الأندلس ممن هجروا تهجيرا خارج حدود أوروبا. وكذا الجغرافيا إذ أتاح لهم القرب من المغرب فرصة الاستيلاء على جزء كبير من مخطوطاته (الشراء، القرصنة، السرقة، التهريب...)، مستغلين الاضطرابات التي تعصف بالقائمين على أمور البلاد في ذلك الوقت.
وأهم مثل يذكره التاريخ واقعة مكتبة المولى زيدان السعدي حين قامت ضده انتفاضة ابن أبي محلي أوائل القرن السابع عشر، فلاذ بالفرار حاملا معه في سفينته نحو فرنسا كنزا من المخطوطات بلغ زهاء خمسة آلاف مخطوط؛ معظمها كان من خزانة السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي الذي كان يقايض الكتب بالذهب. لكن القراصنة اعترضوا سبيل السفينة، بعد القصة المعروفة حول التأخير في الوفاء بالتزامات الناقل، وأخذوا ما فيها إلى ملك إسبانيا فليب الثاني. وقد وضع المستشرق اللبناني ميخائيل غزيري سنة 1770 فهرسا جامعا لما تضمنته المكتبة الزيدانية من مخطوطات عربية وإسلامية وكتب ومراسلات سلطانية عن ذاك الوقت.
كانت هذه المكتبة حسب أغلب المؤرخين النواة الحقيقية لـ"منجم الكتب"، ذي الصيت العالمي تحت اسم مكتبة الاسكوريال، الواقعة على بعد 60 كلم شمالي العاصمة الإسبانية مدريد. فهي التي بوأت الاسكوريـال صدارة المكتبات الأوروبية من حيث عدد المخطوطات وأهميتها وتنوعها متقدمة على كبرى المكتبات كالفاتيكان والمكتبة الوطنية الفرنسية.
تجد هناك نسخا أصلية - وربما الوحيدة في العالم - لأعمال بعض من رموز الثقافة والفكر في العالم العربي والإسلامي، من زمرتها مخطوط كتاب عبد الرحمان ابن خلدون "لباب المحصل" بخط يده، يعود إلى عام 752 للهجرة. إضافة إلى أهم ما خلفه العرب في مجال الطب، وفي مقدمة هذا الإرث كتاب "القانون" لابن سينا، و"منافع الأعضاء" لغالينوس، وكتاب "شرح رسالة غالينوس إلى أغلوقن في التأني لشفاء الأمراض" لعلي بن رضوان، و"شرح فصول أبقراط" لغالينوس التي تولى ترجمته عام 494 للهجرة حنين بن إسحاق العبادي.
تركيا كان لها نصيب فيما لحق المخطوط العربي من ويلات، فالتاريخ شاهد على ممارسات العثمانيين، وما استولوا عليه عند قيام دولتهم، وامتدادها عبر الرقعة الجغرافية العربية إلى غاية الجزائر. وترقد حاليا معظم تلك المخطوطات العربية المنهوبة في مكتبات مدينتي أنقرة وإسطنبول. وتفيد بعض المصادر بأن إجمالي المخطوطات الموجودة في الأرشيف التركي يقدر بنحو 300 ألف مخطوط، أزيد من نصفها - وتحديدا 160 ألفا - من نصيب اللغة العربية. وزهاء 70 ألفا باللغة التركية، ونحو 13 ألفا باللغة الفارسية إلى جانب مخطوطات باللغات اليونانية والأرمينية والسريانية.
نشير واستنادا إلى المصادر ذاتها دائما جاء ترتيب الدول من حيث توزيع المخطوطات العربية (عددا وأهمية) في العالمين العربي والإسلامي، كما يلي: تركيا، إيران، مصر، العراق، السعودية، والمغرب، سورية، تونس، اليمن، باكستان، أفغانستان والجزائر.
وأخيرا لا بد من اعتراف ينتاب النفس كلما صادفت مخطوطا عربيا بين أيدي الأعاجم في هذه الخزانة أو تلك المكتبة، اعتراف ملؤه المتناقضات جميعها: الخزي لأننا أضعنا ذاك الإرث، والفخر لأن أجدادنا هم أصحابها، الصغر لأننا من فقدها، والشموخ لأننا لولا إضاعتنا لها لما كان العالم على ما هو عليه اليوم.