ثقافة وفنون

حرق الكتب .. «جريمة ضد الإنسانية» قيدت «ضد مجهول»

حرق الكتب .. «جريمة ضد الإنسانية» قيدت «ضد مجهول»

ظاهرة حرق الكتب عمل قديم قِدم المفعول به أي الكتاب، الذي يُرجعه ويل ديورانت؛ في كتابه "قصة الحضارة"، إلى العهد السومري بقوله: «فلم يحل عام 2700 قبل الميلاد حتى كان عدد كبير من دور الكتب العظيمة قد أنشئ في المدن السومرية، فقد كشف (ردة سرزاك) في مدينة تلو مثلا، وفي أنقاض عمائر معاصرة لعهد جوديا، مجموعة مؤلفة من 30 ألف لوح، موضوعة بعضها فوق بعض في نظام أنيق منطقي دقيق». أما التّأريخ بدقة لأول عملية إطعام العلم للنار التي لا يفقه وطأتها إلا من يُقدر العلوم والمعارف، فكانت محط خلاف بين المؤرخين باختلاف الأسباب الكامنة وراء هذا الأمر، التي تتراوح بين الأسباب السياسية أو الاجتماعية أو النفسية، مع الإشارة فقط إلى أن النصيب الأوفى لأبرز حوادث إبادة الكتب عبر التاريخ كانت الأسباب السياسية وراءه. يظن الكثيرون أن الحرق هو الوسيلة الوحيدة لارتكاب هذه الجريمة البشعة، غير أن التاريخ ينبئنا بغير ما طريقة لهذه التراجيديا؛ إذ نجد إلى جانب ألسنة النيران الإغراق في الماء أو الدفن تحت الأرض وأخيرا التقطيع والتمزيق. ويظل أسلوب الحرق في الساحات العامة أمام الجماهير أفضل اختيار على مر التاريخ لدى مرتكبي هذه الجرائم. عودا إلى التاريخ دائما، نجده حافلا بوقائع لهذه الممارسات الشنيعة، التي تتساوى فيها كل الحضارات وأقدمت عليها كل الشعوب وإن بدرجات متفاوتة. لن يسمح المقام بالوقوف عند تفاصيل أشهر المحارق التاريخية للكتب عبر التاريخ، لذا ننتخب بعضا منها دليلا على حضوره على امتداد تاريخ الإنسانية من ناحية، وشاهدا من ناحية أخرى على ما خسرته البشرية من تراث معرفي وحضاري بسبب جنون فرد أو حماقة طائفة أو طيش شعب. تفيد بعض المصادر التاريخية إلى أن أولى جرائم الحرق في حق الكتب تعود إلى عام 335 قبل الميلاد، حين أقدم الإسكندر الأكبر المقدوني على حرق مكتبة برسيبولس، التي ترجح الروايات أنها كانت تحوي زهاء عشرة آلاف مخطوطة. وفي سنة 212 قبل الميلاد، أقدم الإمبراطور الصيني تشين شي هوانج على إتلاف إرث الحضارة الصينية طوال الفترة التي كانت قبل حكمه بما تضمنه في كل المجالات العلمية (تاريخ، موسيقى، أدب، قانون..) وامتدت الحملة لتشمل محاربة الأدباء والعلماء. ترجح الروايات أن يكون الإمبراطور ضيع حرم الإنسانية من نحو 100 ألف كتاب ومخطوط. حديثا حظي هذا الإمبراطور باهتمام الفيلسوف الألماني فريدريك هيجل؛ إذ في المقابل، كان صاحب إنجازات حضارية وعسكرية وسياسية كبيرة. فهو من شجع على البدء في بناء سور الصين، وكان له الفضل كذلك في تقسيم الصين إلى 36 مقاطعة إدارية ليسهل بسط سلطانه عليها. فسر هيجل في كتابه "فلسفة التاريخ" ذاك الفعل برغبته في تقوية أسرته الحاكمة عن طريق هدم وتدمير ذكرى الأسر الحاكمة السابقة، فالحرق إبادة للسابق والبدء من جديد. وتستمر الحرائق على المنوال ذاته، إذ أحرق الإمبراطور الروماني أغسطس في السنوات الأولى لحكمه كل الكتب الغريبة على الرومانيين؛ أيا كان مصدرها التي بلغت نحو ألفي كتاب. من جهته حرص القدّيس بولس على إتلاف ما وجدته من ذخائر في مدينة أفسوس. مكتبة روما كان لها نصيب من الحرق، حيث في القرن الخامس حين دهمتها الجماهير متلفة عشرات الآلاف من المخطوطات والكتب. للعرب والمسلمين نصيبهم في ذلك؛ جناة وضحايا، فالإجماع شبه قائم بين المؤرخين على أن إحراق الكتب كان حاضرا في عصور الدولة الإسلامية منذ الدولة الأموية وهلم جرا؛ إما بفعل حسابات سياسية للحكام والسلاطين أو من جراء الحروب والغزو الأجنبي. ومن المنارات العملية التي أطفأ الجُهال نور توهجها لأتفه المبررات نجد: - بيت الحكمة: ضمت المكتبة كتب التراث الإسلامي والسير والتراجم، ونفائس كتب الكيمياء والطب والرياضيات والفلسفة والأدب، وحوت المكتبة مرصدا فلكيًّا للتحقيق في كشوف بطليموس. كل هذا وأشياء أخرى قدرت بنحو 300 ألف كتاب كان مصيرها الهلاك والإغراق في نهر دجلة على أيدي المغول عند اجتياحهم بغداد عام 1258 للميلاد. - دار العلم: إحدى أضخم المكتبات التي عرفها التاريخ الإسلامي كان مقرها في القاهرة، قدرت المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه محتويات هذه المكتبة، في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب" بقولها: «وفي القاهرة رتب مئات العمال والفنيين في مكتبتي الخليفة مليونين ومئتي ألف من المجلدات». تكررت محاولات إتلافها عبر مراحل، كانت أقواها في فترة العاضد أبو محمد عبد الله آخر الحكام الفاطميين في مصر، حين دخل صلاح الدين الأيوبي إلى مصر وقتها. - المكتبة العامرية: في سورية التي تضمنت ثلاثة ملايين كتاب حرقها الصليبيون في القرن العاشر الميلادي، معتقدين أن جميع محتوياتها هي نسخ من القرآن الكريم، بناء على تعليمات القسيس برترام سنت الذي أمر بحرقها، وكان للمكتبة أكثر من 180 ناسخًا يتناوبون على العمل بها. وللغرب الإسلامي نصيبه؛ إذ شهدت بلاد الأندلس في القرنين الخامس والسادس للهجرة حرق الكتب بأمر من السلطة. ففي عهد ملوك الطوائف أحرقت كتب الإمام ابن حزم الظاهري. وفي المغرب أحرق علي بن يوسف بن تاشفين أمير دولة المرابطين كتب الإمام الغزالي، وفي مقدمتها كتابه «إحياء علوم الدين». أما في عهد الموحدين، فيذكر أحمد أمين في كتابه "ظهر الإسلام" حوادث حرق كتب الفقهاء في عصر مؤسس دولة الموحدين من خلال ما رواه (صاحب المعجب) باعتباره شاهد عيان على حرق الكتب بقوله: «وفي أيامه - أي أيام ابن تومرت - انقطع علم الفروع وخافه الفقهاء، وأمر بإحراق كتب المذهب، فأحرق منها جملة في سائر البلاد. وقد شهدت ذلك وأنا بمدينة فاس يؤتى منها بالأحمال فتوضع، ويطلق فيها النار». وتستمر الظاهرة إلى عصرنا الحالي؛ فقبل عقدين فقط كان الحرق مصير مكتبة ناصر خسرو إحدى أكبر وأفضل المكتبات العامة بأفغانستان، تشتمل على نحو 55 ألف مطبوع بين كتب ووثائق ومخطوطات نادرة. تم إبادتها على يد حركة طالبان في أغسطس 1998. وقبل سنتين فقط، تتجدد المأساة في شمال مالي وتحديدا في مدينة تمبوكتو حين أقدمت جماعة بوكو حرام على إحراق جزء كبير من مكتبة العالم المتصوف أحمد بابا التنبكتي. وقبل أشهر فقط كانت بقايا التراث الإنساني المحفوظ في مكتبات وخزانات الموصل بالعراق على موعد مع الإبادة في الساحة العامة هناك على يد أفراد من حركة داعش. إن الظاهرة جريمة بلا منازع بل لا ضير من تصنيفها ضمن الجرائم ضد الإنسانية التي نسمع عنها بين الفينة والأخرى دون أن نعيرها ما تستحق من الاهتمام؛ ودون أي تفكير في أثر هذه الممارسات في المشترك الإنساني (الماضي، الحاضر، المستقبل) اللامفكر فيه حاليا.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون