بقيادة «عاشق التراجم والسّير» .. «المجلة العربية» إرث وطني يتجدد
الزمن منتصف السبعينيات الميلادية، العمل التنموي كما الثقافي على قدم وساق، والأجواء مشحونة بحماسة وأمل يبثهما الوليد المنتظر، لكن خبر مقتل الملك فيصل بن عبدالعزيز يقع على البلد وعلى فريق العمل كالصاعقة، وعوضا عن تأجيل الإصدار الافتتاحي لمجلة عربية ثقافية مصورة، أقرها الملك بمرسوم أخير، يعكف الجميع على إدراج ملف خاص عن الملك الراحل، يحكي مآثره السياسية والشخصية، ويدشن لعهد جديد أرسى وأقوى من أن تنال منه المفاجآت الحزينة أو السيئة، لتتصدر صورة الملك الشهيرة غلاف المجلة الافتتاحي، وفي الزاويتين العلويتين للغلاف صورتان للمسجدين، الحرام والأقصى، إشارة إلى العناية التي كان يوليها الراحل لقضايا أمتيه العربية والإسلامية.
ميلاد ثقافي
#2#
في حضرة الصورة الملونة وحيويتها غابت العناوين والمانشيتات المكتوبة، معلنة ميلاد مجلة عربية سعودية مطلع آب (أغسطس) 1975، بإشراف المؤسس الأديب الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ، ورئاسة تحرير رجل السياسة والثقافة الدكتور منير العجلاني، برعاية وزارة المعارف، قبل أن ينتقل الإشراف على "المجلة" إلى وزارة الإعلام لاحقا، فيما كانت أعداد "المجلة" الأولى تصدر وتطبع في بيروت على غرار عديد من المجلات العربية الثقافية في ذلك الوقت، لتواكب المجلة العربية عصر الصورة الملونة والإخراج الفني المغاير، المتعاظم شأنه في منتصف السبعينيات، وفقا لرؤى أدبية ووطنية وضعت "المجلة" في زمن قصير في مصاف المجلات الأغنى ثقافيا والمطلوبة اجتماعيا.
#4#
ويكتب محمد السيف رئيس تحرير "المجلة" الحالي و"عاشق السّير والتراجم" مشيدا ببدايات "المجلة" وبالراحل العجلاني "إن المطّلع على الأعداد الأولى من "المجلة العربية" يلحظ الرغبة الجامحة والحسّ الأدبي الكبير لدى العجلاني كي تحقق "المجلة العربية" مكانةً متميزة بين المجلات الثقافية العربية، وفي أسرع وقت ممكن، وذلك من خلال ما طرحته الأقلام الكبيرة والمميزة فيها من مقالات وآراء وأبحاث في مجالات اللغة والأدب والنقد والتاريخ والفلسفة والآداب الغربية والشرقية والعلوم وغيرها، لذلك جاء الكُتابُ فيها من أبرز رموز وأعلام الثقافة العربية، كالشيخ عبدالله العلايلي، ومعروف الدواليبي، والدكتور نقولا زيادة، وبدوي الجبل، والأمير عبدالقادر الجزائري، وخير الدين الزركلي، ومحمد حسن فقي، وعمر الأميري، والدكتور أحمد الشرباصي، والدكتور مصطفى الشكعة، والدكتور فيكتور الكك، وجميل صليبا، وغيرهم من أعلام الثقافة العربية".
ما كتب عن العجلاني مقتطف من تحقيق مطول للسيف نشرته الشقيقة صحيفة "الشرق الأوسط"، آواخر يونيو 2004 تأبينا لرحيل العجلاني، وحينها لم يكن السيف يعلم بعد عن الأقدار التي ستأخذه مستقبلا، وتحديدا في عام 2015، إلى رئاسة تحرير هذه "المجلة" العريقة، لكنه القدر اللطيف الذي أتى متوجا لجهود السيف في إثراء المشهدين الصحفي والثقافي، بسير ومذكرات كثير من أعلام الدولة ورجالها الذين عملوا بجد من أجل الوطن، وهو ما يلتقي بدوره مع الدور البارز لـ "المجلة العربية" تحديدا في هذا المضمار، إذ قدمت ولا تزال طوال تاريخها مذكرات وحوارات لأسماء وطنية لامعة في سماء الصحافة والأدب والثقافة، سواء ممن عملوا داخل أروقتها لتقديم منتج ثقافي لائق، أو ممن احتفت "المجلة" بمشاركاتهم وإبداعاتهم، لتحظى في كل مرة بملامح تحريرية يشكلها رؤساء التحرير الذين تعاقبوا عليها منذ الدكتور منير العجلاني 1975 وبعده حمد القاضي حتى عام 1428 هـ، فالدكتور محمد السبيل حتى نهاية العام نفسه، ثم تولى الدكتور عثمان الصيني رئاسة تحرير "المجلة" حتى عام 2013م ثم تولى الدكتور عبدالله الحاج رئاسة تحرير "المجلة" حتى عام 2015 م فيما يرأس تحريرها حاليا محمد بن عبدالله السيف.
نقطة تحول
وعن تجربته التحريرية يشير الأديب حمد القاضي إلى لحظة تحول فارقة شهدتها "المجلة" مع دخول عامها التاسع في عددها الـ 89 الصادر في جمادى الآخرة 1405هـ إذ أصبحت بتوجيه من المشرف العام عليها آنذاك الشيخ حسن آل الشيخ - يرحمه الله-؛ ثقافية اجتماعية، في حين أغلب المجلات الشهرية المعروفة مجلات موسومة بالهوية الثقافية، إلا أنه تم إعطاء المجلة الصفة الثقافية والاجتماعية، لتخدم كافة القراء على مختلف مشاربهم، ولتلبي مختلف أذواق وثقافات قرائها داخلياً وخارجياً.
#3#
وهنا تذكر إشادة الدكتور محمد عبده يماني وزير الإعلام الأسبق بإدارة الأستاذ حمد القاضي الذي حرر "المجلة العربية" من "أبراجها العاجية" بحسب وصف الوزير يماني إلى مستوى الناس ليجعلها في متناول الجميع.
وهي الفترة ذاتها التي عرفت فيها "المجلة" زخما كبيرا على مستوى التفاعل لتحقق عددا من المكاسب، إذ خصها علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر بنشر مذكراته فيها، وكذا مذكرات السفير الأديب السعودي أحمد المبارك، ومذكرات عبدالله القرعاوي - يرحمه الله - التي كان عنوانها "رحلة في نصف قرن" ومذكرات واحد من أقدم رؤساء التحرير عبدالله عمر خياط، ومذكرات الأديب الراحل عبدالله الجفري - يرحمه الله-.
ومن أقلام النخبة الوطنية الذين شاركوا الكتابة في "المجلة العربية" كل من الدكتور عبدالعزيز الخويطر، والدكتور صالح بن حميد، والدكتور غازي القصيبي، وعبدالعزيز السالم، والأديب العالم أبو عبدالرحمن بن عقيل، والأديب الشاعر سعد البواردي، وعلوي الصافي، ومحمد القشعمي، ومحمد الجلواح والدكتورة هند الخثيلة، إضافة إلى عديد من الأقلام الشابة الذين قدمت لهم "المجلة" ثم ما لبثوا أن انتقلوا إلى الكتابة في عديد من صفحات الرأي السعودية والعربية.
الثقافة .. استثمار وصناعة
وكما تنقل مقر "المجلة" بين أحياء الرياض؛ الشميسي والعريجا والمربع، وصولا إلى مقرها الحالي في الملز، تتابع على رئاسة تحريرها أسماء بارزة كان لكل واحد منها لمسته الخاصة، ومحبته الغامرة، بوصف هذا العمل تكليفا لا تشريفا.
ليأتي اختيار وزير الثقافة والإعلام الدكتور عادل الطريفي، محمد السيف، مسددا بوصفه الأقرب لتسيير دفة هذا المكتسب الوطني واستثمار قيمه المتعاظمة يوما بعد آخر وإصدارا تلو إصدار، ثقافيا ومعرفيا.
فما كان من السيف الباحث والمختص في تاريخ الوطن وأعلامه ورواده إلا أن تصدى لهذه المهمة من حيث انتهى الآخرون لا من حيث بدأوا، إدراكا منه لقيمة هذا الإرث الذي أصبح بين يديه، فإلى جانب الحرص على التطوير التقني والفني لإخراج "المجلة"، ما يتناسب وحداثة الواقع الإعلامي المعاصر، كان هناك شعور واضح ومختلف هذه المرة بثه السيف في العاملين معه تجاه صناعة ثقافية شاملة لا تقف عند حدود توزيع العدد الشهري.
بل تتجاوز ذلك لتخوم صناعة النشر وتنويعاته المعرفية التي يجيدها السيف بصفته وبخبرته مالكا لدار "جداول" الشهيرة، التي كان لها سبق قيادة التنوير وإثراء المعرفة في كثير من المناسبات الوطنية والإصدارات الثقافية.
فعمل وفريقه على تنويع الإصدارات المرافقة لـ "المجلة"؛ على هيئة مختارات لما نشر على مدى 40 عاما، هي عمر "المجلة" اليوم، فكانت "الحوارات" وكانت "القصائد" و"الأعلام" إضافة إلى "المدن" التي تناولتها أعداد قديمة، عبارة عن مجاميع حاضرة في إصدارات متفرقة ومصنفة توثق لمراحل مهمة من تاريخ الوطن، لا غنى عنها للباحث والمؤرخ، فضلا عن المهتمين باختلاف شرائحهم ودوافعهم.
يبقى أن معرض الكتاب الدولي الأخير في الرياض كان شاهدا على بدايات قطف ثمار هذا الجهد المتواصل، بحجم الإقبال الكبير على جناح "المجلة"، وهو الأمر غير المسبوق على الأقل تجاه أجنحة مجلات اعتاد الجميع أن تشارك شرفيا فقط.
لكن "المجلة العربية" بإدارتها الجديدة وبعناوينها الجاذبة والمميزة، إضافة إلى إصداراتها المتنوعة التي استهدفت الأطفال كما الكبار، علميا واقتصاديا وثقافيا، أثبتت أن صناعة الثقافة لا حدود لينابيع أفكارها، وأنها أوسع من أن تحصر بين دفتي غلاف مجلة.