عبد الفتاح كيليطو .. صاحب الابتسامة «المقلِقة»
عديدة تلك العقبات التي تصدُ أي محاولة للكتابة عن المبدع المغربي عبد الفتاح كيليطو؛ صاحب "الابتسامة المقلقة للمحلل" على حد تعبير صديقه الراحل عبد الكبير الخطيبي. فالرجل، وعلى الرغم من باعه الطويل في السرديات العربية القديمة، واستقباله محاضرا عن الأدب العربي في كبريات الجامعات العالمية مثل كوليج دوفرانس والسوربون في فرنسا وهارفارد وبرينستون في أمريكا، لا يُجيز لنفسه صفة الناقد ولا حتى الكاتب بل يرى نفسه مجرد "محلل للنصوص" لا غير.
يُعلق على هذا الأمر قائلا: "لدي بعض التحفظ، في أن أعتبر نفسي كاتبا، وإذا لزم الأمر، فأنا مجرد ممارس لنشاط"، مستعيدا بهذا الخصوص منظور رولان بارت، مضيفا إليه: "أما كاتب، فتبدو إليَّ، مغالية في الادعاء".
ربما يسقط الرجل تلك الأوصاف عن ذاته؛ كي يحظى بلقب الحظوة في الزمن الراهن إنه صفة المثقف. بيد أن "الأدب والغرابة" (1982) يصدمنا بجواب غريب فعلا، وهو ما يقر به "قد تعتبرون أن جوابي لا يخلو من فظاظة، ولكن ثقوا أن لدي إحساسا بأني لست مثقفا. فالمثقف كما يشاع هو شخص يمتلك أفكارا، ويكد من أجل إشاعتها عبر الكتابة أو عبر الكلام. هذا التحديد قد ينطبق على عديد من الكتاب والصحافيين العرب؛ أنا أقدرهم وأغبطهم، نعم أغبطهم، لأني أشعر دائما، وبانذهال، أني لا أملك أفكارا، على أية حال، مبتكرة وشخصية.
إذا كان عليّ أن أقدم رأيي في هذه القضية أو تلك إبان وقوعها، فلا يمكن أن أتلفظ إلا بالترهات. يتهيّأ لي أن المثقف هو شخص صادف، في يوم ما، مفكرا، وسعى بهذه الكيفية أو تلك، إلى تقليده، إلى إعادة إنتاجه. يكون قد خالط هذا المفكر من قرب، ولم ينأ كثيرا عن عالمه. والحال أني لم أنل هذه الحظوة، لم أصادف أبدا مفكرين من هذا القبيل؛ فأساتذتي في الإجازة لم يكونوا مثقفين، وإنما كانوا محللين جيدين للنصوص الكبرى".
عقبة أخرى تواجه من يرغم في محاورة عاشق المقامات؛ أطروحته للدكتوراه من السوربون بعنوان "السرد والأنساق الثقافية في مقامات بديع الزمان الهمذاني والحريري" (1982)، تكمن في احترازه من الحوار، إذ على الكاتب أن يتجنب الحوارات، وأن يكتفي بكتبه ويدع قارئه يتدبر فيها أمره. وإن كان لا بد، فليكن حوارا واحدا، وإلا سيتعرض حتما لإعادة أقواله، ربما لأن الأسئلة ذاتها تنحو أحيانا المنحى نفسه. والنتيجة، فيما يخصني، تكرار ممل شائن، تناقضات، ركاكة، تفاهات. ما زاد من قلقي أنني تبيّنتُ أنني سجين دائرة ضيقة من المواضيع والقضايا لا أبارحها ولا أمَل لي في تخطيها (مسار/2014).
رغم كل ذلك لا بد من الإشادة بالخلفية الثقافية المتينة لصاحب الأسلوب الساخر والمعرفة الدقيقة بالتراث العربي، وأيضا بالآداب العالمية خاصة الفرنسية والألمانية منهما على الخصوص، كما أنه على إلمام متين بمناهج النقد الأدبي الحديث؛ وهو ما تعكسه كتبه وأبحاثه حيث يتحاور في كتبه رولان بارت مع ابن المقفع، ودريدا مع الحريري، وكافكا مع المعري، والجاحظ مع جوته في خلطة إبداعية مُحكمة يحرص على كتابتها بأسلوب شخصي رشيق سواء بالفرنسية أو العربية مازجا بين دقة التحليل وجمال الاستعارة رافعا شعار "أتحدث جميع اللغات لكن بالعربية".
أمر يؤكده في غير ما كتاب من أعماله المتنوعة والكثيرة "الحكاية والتأويل" (1984)، "الغائب" (1987)، "المقامات" (1993)، "أبو العلاء المعري أو متاهات القول" (2000)، "حصان نيتشه" (2005)، "الأدب والارتياب" (2009)... "أخاطب القارئ العام، لا القارئ المختص. لهذا أسعى إلى الوضوح فأحاول جهد المستطاع ألا تكون في دراساتي فكرة مبهمة أو جملة معقدة، بل إنني أشرح في الهوامش الكلمات «الصعبة» حتى لا يتجشم القارئ عناء الرجوع إلى القاموس. ثم إنني أشركه في التحليل الذي أقوم به فأعقد معه حوارا بين الفينة والأخرى بحيث يشعر بأنه معني مباشرة بما يقرأ".
لا يتناول كيليطو كتابا من كتب التراث أو نصا من نصوصه، إلا ولديه جديد يقوله عنه أو حوله. فهو لا يتحاشى اجترار ما قاله الأسبقون، بل يأتي دائما بجديد يضيئه أو على الأقل يضيء جانبا من جوانبه، حتى ليجعل القارئ ينظر إليه بعين جديدة، ويغريه بإعادة القراءة بهذه العين.
وقد يكون بعض ما يأتي به مجرد انتباهات خاصة أو انطباعات شخصية، ولكنها انتباهات ذكية وانطباعات مرهفة، تكشف لنا عما لم نره نحن في النص أو رأيناه ولم ننتبه لأهميته. كما لو أن هذا النص يبوح له بما لا يبوح به لغيره، فيدخل معه في حوار مقلق وماكر، وشيئا فشيئا يصبح هذا الحوار لعبة ماتعة، ما يلبث القارئ مشاركا فيها حتى النهاية، ومستمتعا بها في الآن ذاته. علاقة بموضوع القارئ يُفاجئنا صاحب "لسان آدام" (1996) بموقف فريد وعجيب؛ فالطفل لديه هو القارئ المثالي، يقرأ من أجل أن يقرأ. القراءة عنده غاية في ذاتها. في حين يعتبرها البالغ غالبا كوسيلة، يقرأ من أجل أن "يقتل الوقت"، "أن يثري لغته"، يقرأ بفعل التقليد، كأن يُقال له إن القراءة عمل مفيد وبواسطتها يصل المرء إلى المعرفة. الطفل يتعاطى قراءة خالصة. ولا يبحث عن «اللب»، عن معنى مخبوء أو عميق.
بالعودة إلى طقوس القراءة لديه يقول: "فيما يخص القراءة، عندي منها ضربان: نهارية وليلية. خلال النهار أقرأ بالعربية وفي الليل بالفرنسية، وهذا النظام رغم صرامته، لا يمكن في نظري أن يفسر تفسيرا منطقيا". ذاك ديدن المبدع الغريب الذي يحرص على التميز والانفراد في كل ما يقدم عليه وهو يردد في قراراته ذاته جملته الأبدية "اجعل نفسك بحيث لا تُعوض".