عند العرب .. «الأمثال» أقوى من الخَطابة وأبقى من الشعر
اعتنى العرب عناية فائقة بالأمثال، فقد أقحموها في كل ميادينهم تقريبا، فكان لكل ضرب من ضروب حياتهم مثل يلهج به، وقالوا عن صناعة المثل الشيء الكثير، فهذا ابن المقفع يمتدح الأمر بقوله: "إذا جعل الكلام مثلا، كان أوضح للمنطق وأنقى للسمع وأوسع لشعوب الحديث". وعن علة تسمية المثل بهذا الاسم، يجيب ابن رشيق قائلا بأنه: "ماثل لخاطر الإنسان أبدا يتأسى به، ويعظ ويأمر ويزجر. وفيه ثلاث خلال: إيجاز اللفظ، إصابة المعنى وحسن التشبيه".
أبدع الأوائل في ضرب الأمثال في مختلف المواقف والأحداث، فلا يخلو موقف من حياتهم العامة إلا ونجد فيها مثلا قد ضرب، ولا يغيب عن خطبة مشهورة ولا قصيدة سائرة مثل رائع بليغ ومؤثر. كيف لا يكون ذلك، وقد وصف أحدهم الأمثال بأنها "وشى الكلام وجوهر اللفظ وجلي المعاني، فهي أبقى من الشعر وأشرف من الخطابة لم يسر شيء مسيرها، ولا عم عمومها حتى قيل أسير من مثل".
فيما لم يتردد المعتزلي إبراهيم بن سيار النظام في الإقرار بتفرد المثل عما دونه من أصناف الكلام؛ فهو جامع لأربع خصائص لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكناية فهو نهاية البلاغة.
باختصار، نقول في تعريف المثل بأنه جملة مستدلة على موقف ما حدث في الماضي، تصف وضعا أو موقفا ما يحدث في الحاضر، أو بمعنى آخر تشبيه لموقف ما بحدث شهير بالماضي تتناقله الألسن عبر التاريخ، وهي من أقدم العادات العربية التي ما زالت تستخدم حتى اليوم.
أما عن التصنيفات المعتمدة في مجال الأمثال فتتعدد وتتنوع، يبقى أشهرها بحسب علة النشوء، وفيها يقسم المثل أصنافا ستة، وهي: الأمثال الناجمة عن حادث؛ أو عن تشبيه؛ أو عن قصة؛ أو عن حكمة؛ أو عن شعر.
تحفل الكتب التراثية العربية برصيد غني عن هذه الحرفة التي أتقنها العرب غاية الإتقان، بلغت بهم درجة نظمها شعرا فصيحا؛ مثل قول أحدهم في بيت شعري ضمه مثلين: "تذكر نجدا والحديث شجون / فجن اشتياقا والجنون فنون"، أما الشاعر أبو العتاهية فقد اهتدى إلى نظم قصيدة بأكملها في بحر الرجز بعنوان "أرجوزة الأمثال".
تاريخيا دائما نشير إلى بعض المصنفات في موضوع الأمثال، وإن كان الأمر محط خلاف بين المؤرخين والرواة عن صاحب قصب السبق في وضع مؤلف عن الأمثال، فبعض المصادر تشير إلى كتاب "أمثال العرب" لصاحبه المفضل الضبي، وبعده "كتاب الأمثال" لأبي فيد مؤرج السدوسي ثم "جمهرة الأمثال" لأبي هلال العسكري.
في حين ترى مصادر أخرى إلى أن المراجع الحقيقة المعترف بها في باب الأمثال – وفق شروطها - لا تتعدى ثلاثة مصنفات. أولها "الحكم والأمثال" لأبي أحمد العسكري؛ وثانيها "مجمع الأمثال" لأبي الفضل أحمد الميداني، الذي يضم نيفا وستة آلاف مثل، وثالثها "المستطرف في كل فن مستظرف" للأبشهي.
ونجد ابن النديم في كتابه الفهرست يذكر أسماء لمن وصفهم بالرواة الأوائل للأمثال، منهم عبيد بن ثرية الجريمي وهو من اليمن، وصحار بن العياش العبدي وعلاقة الكلابي ... ليتولى اللغويون بعد ذلك مهمة العناية بالأمثال من قبيل أبي عمرو بن العلاء والمفضل الضبي وأبي زيد الأنصاري وسعدان بن المبارك وأبي عبيد القاسم بن سلام ... وغيرهم ممن وضعوا ركائز "علم الأمثال" وأرسوا قواعده.
بقي أن نشير إلى أن قوة العرب في صناعة المثل عائد بالدرجة الأولى إلى كون ثقافتهم – في شق كبير منها - شفوية قوامها السليقة وقوة الذاكرة، ما خلف لنا ثراء في الأمثال قل نظيره في الثقافات واللغات الأخرى. بل تكاد الترجمة تلمس أحيانا في أمثال عربية عندما تنقل إلى لغات أخرى؛ بالنظر إلى بقاء المثل ابن بيئته وفيا لحمولتها وناطقا باسم المحيط الذي أنتج فيه وضرب فيه أول مرة.
يبقى المؤكد أن أي ثقافة أو لغة في العصر الحديث لا تعدم في تاريخها وتراثها أقاويل تطلق عليها أمثالا أو "حكما"، وتجد ما يكاد يشبه التطابق في المعنى من وراء ضربه بل أحيانا تجد لمثل نظيرا له في اللغة العربية. ويمكن أن نوضح ذلك ببعض المختارات في الموضوع، ننتخب فيها تلك التي تبقى وفية للسياق المحلي (تاريخيا، جغرافيا، ...) وللثقافة التي أنتجت فيه.
ففي هايتي نجد مثلا مضمونه "السلطعون الذي يمشي بعيدا جدا يقع في قدر الطبخ"، وله نظير في العربية هو "لا يأكل الذئب من الغنم إلا القاصية". أما عند الرومان فنجد "سوف يسألك الشتاء عما فعلته في الصيف"، والذي يوافقه عربيا "شمر ذيلا وادرع ليلا". وللمجريّين مثل يقول: "صديق جاهل أضر من عدو قاتل" وهو ما عبر عنه العرب بقولهم: "ظن العاقل خير من يقين الجاهل".
وفي ارتباط مع الأمثال العالمية دائما، نقف هنا مع جولة سريعة ننتقي فيها بعضا من الأمثال العالمية. نبدؤها بإنجلترا حيث يقال: "إذا نظف كل منا أمام بيته صار الشارع نظيفا"، وفي اللاتينية نجد "لا تغلق باب الإسطبل بعد سرقة الحصان". أما في بلاد الهند مهد الحكمة نختار مثلا مضمونه "من يدعو أعمى يستقبل ضيفين"، وعند جيرانهم الصينيين "شجرة واحدة لا يمكن أن تصنع غابة"، ولدى اليابانيين نورد "عندما تدق ساعة الجوع لا طعام سيئ".
عودا إلى الحضارة العربية التي نجدها قد بلغت من الدربة في باب الأمثال مبلغا وصل بهم حد التمثيل بالأشخاص، فقيل في الكرم "أسخى من حاتم"، وفي المحبة "أعز من كليب وائل"، وفي السيادة قالوا: "أسود من قيس بن عاصم"، وفي الحلم قالوا: "أحلم من الحنف بن قيس". وكذا الأمر في الحيوانات في قولهم: "أشجع من أسد"، "أجبن من الصافر"، "أحذر من غراب"، "أسمع من فرس"، "أنوم من فهد".
ختاما لهذه الجولة الخفيفة في رحاب صناعة أبدع فيها العرب غاية الإبداع قديما نقر بأن المطلع على هذا بعض مما خلفوه من تراث لا نظير له في باقي الثقافات ليصاب بالحسرة على خذلاننا لها، ليس في باب التأليف والصناعة، وإنا فقط في التداول والاستعمال فمن النادر جدا أن تسمع في غمرة اللغو والسفسطة مثلا يضرب أو حكما تنطق للاستشهاد أو الاستدلال.