في السينما .. الفقير إما سارق جيوب وإما سارق قلوب
عندما نتحدث عن الفقر في السينما، فعادة ما نشير إلى الأفلام التي تظهر موضوع الفقر وعواقبه في مناحيه الإيجابية والسلبية. ووفقا لقراءة نقدية للكاتب والناقد السينمائي المغربي عبدالله الساورة. إذ تبدو هذه الأفلام كحجة أساسية يشار إليها صراحة. منذ البدايات ظل الفقر الرفيق الملازم للإنسانية. فالفقر هو الحاجة أو الصعوبة في الحصول على بعض السلع والخدمات، ولكن ليس هذا فقط، بل حينما نتحدث عن الفقر يمكن أن نتحدث على سبيل المثال عن حالات واضحة من الظلم والعجز. فالفقر هو الشر الذي يمكن أن تجده في كل البلدان ولدى كل الأعمار والعصور لأنه يظهر مثل الولادة (مثلا .. الأمهات اللواتي لا يستطعن ولادة أطفالهن في حالة جيدة أو إطعامهن في السنوات الأولى من حياتهم.)
وظهرت رؤية الفقراء والفقر منذ بدايات السينما، ونتذكر على سبيل المثال فيلم "الأم" لماكسيم جوردي وكذا في عديد من أفلام شارلي شابلن، التي تظهر الخراب والعجز مثل فيلم "الصبي" أو "شارلي المتشرد" و"حياة الكلب". كما أنه ينتمي إلى هذه النوعية فيلم "المنسيون" والفيلم الوثائقي "أرض بلا خبز" للمخرج الإسباني لويس بانويل، الذي يصور البؤس والميزريا في منطقة "هورديس" الإسبانية في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي.
تسلط هذه الأفلام المزيد من الضوء بوعي أفضل على مسألة الفقر. بعد ذلك سعى عديد من المخرجين إلى استعمال الفقر أيضا كحجة أو موضوعة أساسية في أفلامهم.
مع مرور الوقت، أتت أفلام جديدة لم تبرز فقط واقع هذا الشر ( الفقر) ولكن حولته إلى قاعدة للشغب والاحتجاج ضد حالات ووضعيات كانت تعتبر غير عادلة ومنصفة بشكل عام.
وقد ساعدت السينما ذات البعد الاجتماعي والمطلبي على فضح حالات الفقر والوضعيات السوسيوثقافية الهشة التي تسببت فيه، بكونه انعكاسا أكثر من ذلك وفي بعض الأحيان تحديثه بطريقة أو بأخرى للحظات سابقة من حياة معاشة في وضعية فقيرة. بعض الأفلام المقترحة أدناه على هذه التيمة أخذت هذا البعد الاجتماعي والمطلبي لتثير الانتباه إلى أفلام جيدة تبرز العواقب الوخيمة للفقر، وهي تعمم شرا على نطاق واسع وأكثر من شر يجتمع كما هو الفقر.
يمكن لهذه الأفلام التي نقدمها أنها تعرض الاهتمام بالعالم السفلي، نعرفه، ونعرف كيف هم الفقراء، وكيف يعيشون وندرك وجود هذه المشكلة التي تطرح نفسها في بعض الأحيان دون معرفة أسبابها، ويمكن أن تكون أكثر خطورة مما كنا نعتقد، لأنه يمكن أن تؤثر في ملايين الأشخاص من الأبرياء، الذين لا ينتظرون معاناة النتائج اللامرئية للفقر.
«فيلموغرافيا» تعالج الفقر
تعج السينما بفيلموغرافية مطولة لأفلام الفقراء، ومظاهر الفقر. ولم تخلو سينما أي بلد من إبراز وجوه وأصناف من تعاسات الفقراء وما يكابدونه للحصول على لقمة العيش. ومن بين أشهر هذه الأفلام نجد: فيلم "المليونير المتشرد" (2008)
فيلم "المليونير المتشرد" من إخراج داني بويل والنص لـسايمون بوفوي مقتبس عن رواية للكاتب والدبلوماسي الهندي فيكاس سوارب، التي تحمل عنوان "سؤال وجواب" وذلك بعد إجراء بعض التعديلات على تفاصيل الرواية. يحكي الفيلم قصة جمال مالك، الشاب الفقير غير المتعلم الذي نشأ في الأحياء العشوائية في الهند وتحديدا في بومباي حيث يشارك جمال في النسخة الهندية من برنامج " من سيربح المليون" حيث سيدهش الجميع بإجابته عن الأسئلة سؤالا بعد سؤال. وليثير أيضا شك مقدم البرنامج الذي لا يقف صامتا أمام الفوز المتكرر لجمال.
فيلم «الصبي»
إخراج شارلي شابلن (1924) تدور أحداث الفيلم حول سيدة تحاول التخلص من ثمرة خطيئتها والمتمثلة في طفل رضيع، وذلك بتركه داخل إحدى العربات، التي تتعرض للسرقة وعندما يكتشف اللصوص وجود الطفل يقومون بإلقائه بجانب صناديق القمامة، ليجده الصعلوك مصادفة ويحاول التخلص منه في البداية، لكن لا تطاوعه نفسه، ويقرر الاحتفاظ به، ومشاركته حياة الصعلكة، عن طريق تعليم الطفل تكسير زجاج النوافذ ليظهر هو بعد قليل كمصلح للزجاج. وهكذا يكسبان عيشهما ويطاردهما الشرطي المتشكك. وتتصاعد الدراما حتى يمرض الطفل ذات مرة، وتحاول السلطات المحلية انتزاعه من شارلي في مشهد شديد التأثير والحزن، حتى تتسبب المصادفات في العثور على أم الطفل التي أصبحت امرأة غنية ومشهورة.
فيلم «بلاسيدو»
إخراج لويس جارسيا بيرلانجا (1961) عشية أعياد الميلاد نظم مصنع لإنتاج العربات حملة تضامن تحت شعار: "استضف متشردا لمأدبة العشاء إلى مأدبتك! ". قبل إنجاز هذه المهمة توظف المؤسسة عاملا اسمه بلاسيدو ألونسو للقيام بهذه المهمة. فيلم " بلاسيدو" (87 دقيقة) يطرح موضوعا اجتماعيا في قالب الكوميديا السوداء. يكشف الفيلم بعمق عن زيف نماذج بورجوازية ولباقتها المصطنعة في عهد فرنكو. في قلب هذا الزيف البورجوازي لن يكون بطل الفيلم سوى وسيطا بين الطبقتين لكن نظرة المخرج تبدو رحيمة ومتعاطفة شيئا ما مع الفقراء (مثل المرأة التي فقدت زوجها وأصبحت محاطة من قبل أشخاص أنانيين).
فيلم «أطفال محطة لينينجراد»
إخراج: هانا بولاك وأندري سيلنسكي (2004) هذا الفيلم الوثائقي الرائع من إخراج مخرجين رومانيين، يبرز عن واقع الكثير من الأطفال الروس دون مأوى، خاصة في محطة القطار لينينجراد بموسكو. يكشف الفيلم عن حيوات هؤلاء الأطفال وإيقاعهم وأحلامهم المنكسرة. من أجل العيش عليهم التسول، السرقة وممارسة الدعارة.
تقريبا في منطقة موسكو ثلاثين ألف طفل بلا مأوى ينامون في الأدراج وفي حاويات القمامة وفي محطات المترو وفي الأنفاق. يطرح الفيلم مشاهد كيف يتعايشون مع البرد القاسي في موسكو، وكذلك مع الجوع. ورغم ذلك هناك أطفال يفضلون العيش في العيش عوض منازلهم. ففي كل سنة يغادر 100 ألف طفل قاصر منازلهم للعيش في شوارع موسكو ما يوجد أزمة حقيقية لها. يظهر الشريط هؤلاء الأطفال في مواجهة الموت وتعسف الشرطة وهما يعبران حياتهما بشكل مباشر أو غير مباشر كل يوم. استقبل الفيلم بحفاوة كبيرة في المهرجانات الدولية وترشح لجوائز الأوسكار عام 2004.
السينما والفقر .. العلاقة الشائكة
غالبا ما يكون الفقراء في السينما على شكل لصوص وينتمون إلى عصابات ومافيات تفتك وتقتل دون رحمة ولا خشية أو مرتزقة مستأجرين وتصورهم في شكل هيئات تدعو للاشمئزاز والنفور منهم خصوصا في السينما الأمريكية. إلا أن هذه الصورة النمطية عن الفقير في السينما يمكن أن نجد لها صورة مغايرة في سينمات أمريكا اللاتينية والمصرية والهندية حيث يظهر الفقير بطلا لا يملك أي شيء ومستعدا للتضحية بكل ما يملك من أجل إسعاد الآخرين. وهكذا نجد الفقر يؤثر في جميع الأجناس ولهذا داخل حقل السينما يمكن أن نصف الفقراء حسب هذا الترتيب:
فقراء سوء الرعاية حيث يتكفل بهم في إطار حملات تضامنية لتحسين أوضاعهم المادية ومستواهم المعيشي سواء من قبل الأشخاص أو من قبل مجموعات معينة.
الصنف الثاني وهم فقراء الحضور حيث يمكنهم العيش بفضل المساعدات المقدمة لهم من قبل الدولة ومن خلال العائلات المحسنة ومن الأصدقاء ودون هؤلاء لا يمكنهم تغطية الاحتياجات الأساسية لهم من مأكل ومشرب ومسكن.
ثم الصنف الثالث فأن تكون فقيرا ليس فقط الحصول على المأكل والمشرب والنوم... بل أيضا أن يكون لك موقف مما يقع ويحدث.
وهناك فقراء نماذج في شدائد الحياة وعظائم الأمور لهم مواقف بطولية في معارك الحياة.
كذلك سلطت السينما الضوء على تيمة جوهرية في هذه العلاقة الشائكة والمتمثلة في الظلم والاستبداد المسلط على الفقراء وكذا العنف المؤسساتي وتصويرهم على أنهم فقط جموح من النازحين والفقراء ومجموعات مهمشة لاحظ لها.
صورت السينما الفقير بمختلف صوره وأبعاده الاجتماعية والسياسية وتركيباته النفسية، فصورته في هيئة لص وقاطع طريق ورسمت له صورة العاشق الصبور الذي يشتغل ويكد ويجتهد لإصلاح أحواله المادية وتحسين وضعه الاجتماعي، وصورته كذلك يقظا ومنتبها ومهذبا على عكس الصورة الأولى النمطية الأولى حيث تلتصق صورته بالأذى والشر للآخرين.
كما تجدر الإشارة إلى أن السينما صورت الفقير في مختلف مراحل الحياة: رضيعا وطفلا وشابا ورجلا وكهلا وكذلك شبحا ومقنعا وفي هيئة شيطان وملاك على حد سواء. وقد اجتهدت السينما كثيرا في تمثل هذا الشر / الفقر على أنه قضية وجب الاستعداد لها ومكافحتها وإبراز الوسائل الممكنة للحد والتخفيف منها ومحاربتها. وصورت مناطقه وجغرافيته وكذلك الحملات التضامنية والتعريف بالحالمين والمناضلين والمناصرين لقضيته. وأنه ليس قدرا محتوما وعلى أنه صنيعة بشرية يتداخل فيها السياسي والاقتصادي والصراعات بين الطبقات وأنه شر عالمي لا يميز بين الأشخاص والأعمار والديانات والعرق.
ينتظر الفقراء/ المنسيون غالبا عالما أفضل ويحلمون بعوالم ومدن فضلى ويجدون ويبحثون عنها بكل ما أوتوا من عزيمة وقوة حتى إن تاهت بهم السبل وقذفت بهم إلى عوالم يجدون أنفسهم فيها مكرهين، كل ذلك أضاءته السينما بأنوارها الكاشفة من منطلقات مختلفة بين من يتعاطف مع قضية المحرومين والفقراء وبين من يجد فيهم بلاء مسلطا وخبثا ومكرا لا ينقطع وجد ضالته في الحرمان والكبت والظلم والاستبداد والقمع واستمرار الحال على ما هو عليه لدوام سلطة آخرين ومصالحهم.