تعدد المهام أم قوة التركيز؟
راج مفهوم إدارة المهام المتعددة أو تعدد المهام بعد التطورات التقنية الأخيرة وادعاءاتها التسويقية التي لا تمت للإنتاجية بصلة. في حين يعتقد البعض أن أساسيات إدارة الوقت وتعظيم الإنتاجية تحدث عند التعامل مع أكثر من شأن في اللحظة نفسها، ولكن قصص الناجحين تعاكس ذلك بالكلية. من المثير أن البحث في عناوين الكتب بمفردات تعدد المهام ـــ مثل Multi tasking ـــ في موقع "أمازون" ينتج مجموعة من الكتب المتناقضة، منها ما يستخدم بعض صور هذا المفهوم كوسيلة لرفع الأداء والإنتاجية، والبعض الآخر ــــ الأكثر كما والأحدث نشرا ـــ يتعامل مع الوجه السلبي للمفهوم وكيف أنه في الأساس مجرد فكرة ننخدع بها تمررها علينا التكنولوجيا ولا ترتبط بالنجاح أو أي من مرادفاته.
يقال إن تعدد المهام كان في الأساس مجرد بديل وهمي لخطط التخلص من الموظفين بسبب الظروف الاقتصادية، عندما بدأ المديرون بدعوة المتبقي من الموظفين إلى إتقان مهارات تعدد المهام لضمان استمرارية العمل؛ مع أن الواقع يثبت أنه من المستحيل الحفاظ على الجودة نفسها والأداء بعدد أقل من العقول والأيدي. رفع الكفاءة وتحسين الإنتاجية لا يرتبطان بتعدد المهام أو القيام بأكثر من أمر في اللحظة نفسها بالموارد نفسها، بل بتطوير طريقة أداء العمل والإجراءات وتقليل الهدر وضبط نسب التعثر والخطأ ـــ وهذا ما ينتج تحديدا عن "التركيز" وليس تعدد المهام.
إذا قمنا على سبيل المقارنة بالبحث في عناوين الكتب الأمازونية التي تحتوي على مفردة التركيز Focus سنجدها تعج بآلاف العناوين الإيجابية، ولن نجد في النتائج أي تناقضات أو تصورات سلبية عن مفهوم التركيز كتلك الموجودة عن تعدد المهام التي تصفه بأنه مجرد خرافة! التركيز هو العلاج الأقوى والأفضل لوباء التشتت والإلهاء في العصر الحاضر - كما أطلقت عليه الأبحاث العلمية - بل إن التركيز من الخصائص القليلة والمثبتة والواضحة في مسيرة الناجحين. عندما التقى نجما النجاح بيل جيتس ووارن بوفيت لأول مرة على طاولة العشاء وسأل أحد الحاضرين عن الأمر الأوحد والأهم في مسيرتي نجاحيهما، كان الجواب مشترك، كلمة: "التركيز".
تزداد الأهمية النسبية للتركيز ـــ وليس لتعدد المهام ـــ مع الرتم السريع وفوضوية الحياة التي تزيد كل يوم وتحاصرنا في أعمالنا وحياتنا اليومية. على الرغم من أننا في زمن التخصص إلا أن كل فرد منا يجد نفسه مطالبا بإدارة وإنجاز عديد من المهام بشكل ملح وسريع، لكل من هذه المهام طبيعة مختلفة وحضور مختلف يستمد طغيانه من التكنولوجيا وكثرة التفاصيل التي تحيط بنا. لهذه الأسباب، يؤكد دانييل قولمان مؤلف كتاب Focus وهو أحد أهم مطوري أفكار وممارسات الذكاء العاطفي، أن الحاجة اليوم إلى إتقان مهارات التركيز والانتباه هو الطريق نحو السيطرة على الإنتاجية والأداء.
لا يخلو تقييم الوضع الشخصي لكل فرد من اكتشاف المعضلات الإنتاجية سواء أثناء ساعات العمل أو أثناء إنتاجيتنا الحياتية خارج أوقات الدوام. على سبيل المثال، نحن نستخدم أدوات التركيز وإدارة المهام بصورة مشتتة للانتباه ومن ذلك تعدد الهواتف المحمولة وأجهزة الحاسب اللوحية وبرامج التنبيه وربما حتى تتعدد عناوين البريد الإلكتروني التي نستخدمها وحسابات التواصل الاجتماعي. نحن دائما ما نحاول حل المشكلة بمزيد من التعقيد حيث ينتهي الأمر بأداة جديدة معها بالطبع كلمة مرور وكلمة سر جديدتان. لا نكتفي في مثل هذه القضية بحلول الترتيب والتبسيط فقط ـــ وهما على قدر كبير من الأهمية ـــ بل يتطلب الأمر شجاعة الترك والتخلي عن أمور وأدوات مساعدة اعتدنا على وجودها لفترة من الزمن. ولكن من منا يقبل بأن يتخلى عن أحد هواتفه أو أعماله اليومية حتى تتحسن إنتاجيته؟!
تتنوع النصائح التي تدعو للانتقال من وهم تعدد المهام إلى فضائل التركيز، وأنا أنصح بالقراءة والاهتمام بهذا الموضوع المهم الذي يشعر بحاجته كل من يضع أداءه اليومي تحت المجهر ويواجه تحديات الإنجاز وتحقيق الأهداف بشكل مستمر. معظم هذه النصائح يتمحور حول قدرتنا على التخلص من التفاصيل، سواء تلك الأشياء الأخرى التي نقوم بها بلا فائدة أو تلك الأهداف التي نتبعها ولكنها لم تكن ضمن ما خططنا له. تشمل التفاصيل كل ما يلح علينا بشكل مزعج ولكنه لا يستحق أن يدخل أساسا في قائمة المهام، ناهيك أن يزاحم أولوياتها أو يدعونا للقيام به وتنفيذه بطريقة مخادعة مستحيلة في الزمان والمكان نفسيهما.