«الجنادرية» .. وحدة وطن ورسالة تنوع ثقافي وإبداعي للعالم
من منطقة برية خالية شمال شرق الرياض، تستضيف سباقا سنويا للهجن، إلى قرية عامرة تختصر تراث وثقافة وطن، غني ومتنوع جغرافيا وتاريخيا. هذا ما يمكن أن توصف به الجنادرية، حيث تباشير الربيع والجو المعتدل. مكان لطالما كان أثيرا على قلب الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز. فاختاره بحب وعناية ليكون مقرا دائما لقرية جامعة لفسيفساء الوطن التراثية والثقافية.
الجنادرية اليوم بعد ثلاثة عقود من العمل المتواصل، معماريا وثقافيا. تجسد بصدق وتدرج مدروس حلم ملك أحب لشعبه ما أحب لنفسه. وعلى المنوال ذاته من العناية بالموروث وتنميته، بيئيا وثقافيا، تستمر هذه التظاهرة في عهد الملك المحب للتاريخ والعاشق لتراث الوطن وبطولات أبنائه، سلمان بن عبدالعزيز.
###جندرة التراث
تاريخيا، الجنادرية اسم لروضة من رياض الجزيرة العربية مشهورة بمياهها ونباتاتها الموسمية. أما لغويا فلها معنيان أحدهما يتعلق بالكتاب والآخر بالملبس. فجندرة المكتوب تعني إظهار ما محي منه وتبيان المهم منه بوضع خط تحته. أما جندرة الملبس فتعود لآلة معروفة قديما تعنى بصقل الثياب القديمة وفردها لتعود كالجديدة.
وفي كلا المعنيين تماس وثيق مع ما قامت وتقوم به الجنادرية على أرض الواقع. من إحياء للموروث الوطني الغني، واحتفاء بالهويات الفرعية التي تشكل من وحدتها هذا الوطن. في رسالة ثقافية تؤكد أن وحدة الوطن لا تعني ذوبان مكوناته الهوياتية لمصلحة هوية واحدة بعينها. وأن تكامل الجميع لا يكون إلا خدمة لوطن واحد وهوية واحدة تشكلت وتأصلت من مجموع هذه الهويات.
فالعرضة النجدية والخطوة الجنوبية كما الدحة الشمالية والرقصات الساحلية. كلها وإن تنوعت أنغامها وألحانها تنطلق من صوت واحد وتصب في مسمع واحد. غايته حفظ الوطن والاحتفاء بماضيه وحاضره.
#2#
ثلاثون عاما من الاحتفاء بالكلمة واللحن والفنون بجميع ألوانها. إذ ما تزال الذاكرة تحفظ للجنادرية قصائد وأوبريتات غنائية خالدة. اشترك في الإعداد لها وتقديمها كثير من المبدعين السعوديين والعرب. فضلا عن أمسيات وندوات معرفية شارك في إحيائها وإثرائها نخبة من خيرة المثقفين.
الفلكلور بتباين أعماره وأنواعه وبكامل تفاصيله لم يكن إلا إبداعا يسجل للزمن الذي ظهر فيه. لذلك لم تكتف الجنادرية بأعمال الأزمان السابقة فسجلت بكثير من الجهد لزمننا وللأزمان المقبلة أعمالا خالدة سيذكرها الوطن والتاريخ بكثير من الإعجاب والتقدير.
والتفاتة بسيطة لعشرات من أعوام خلت. ستجعلنا نتمعن بوضوح ابتسامة غازي القصيبي وهو يلقي روائعه. وصرامة خلف بن هذال وهو يرتجل قصائده. وصوتي طلال مداح ومحمد عبده ينشدان لبدر بن عبدالمحسن: "الله البادي ثم مجد بلادي .. ديرتي غيرتي .. حبي اللي في العروق". أو خالدة سعود بن عبدالله وألحان محمد شفيق "مولد أمة" وفيها يتغنى الشاعر بكل منطقة من مناطق الوطن على حدة. "قلبي تولع بالرياض.. أبها عروس في الجنوب.. وصبيا تداعبها طروب". بينما تردد المجاميع الغنائية بصوت واحد بين مقطع وآخر: "برد وسموم نحبها.. في سلمها وفي حربها .. نحبها نحبها".
#3#
كلمات مبدعة، حفرت لها في ذاكرة من عاصرها كثيرا من الحب والحنين. ولا تزال تجد لها من الإعجاب بين جيل أحدث سنا، الكثير، بشهادة أرقام المشاهدات والتفضيل على مواقع التواصل الحديثة. السبب معروف والنتيجة غير مستغربة. إذ إن هذه الأعمال استكملت بكلماتها وألحانها وأدائها أركان العمل الإبداعي المؤهل للبقاء زمنا أطول. وما يقاس على جهد منتج واحد من منتجات الجنادرية يمكن تعميمه على مدينة تراثية ثقافية متكاملة تنمو عاما بعد آخر.
###متحف مفتوح
من الناحية التراثية والبيئية، وبالتعبير السياحي ما تقدمه الجنادرية عبارة عن "متحف مفتوح". بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وبحسب مختصين فإن المردودين الثقافي والمادي لمتحف هكذا لا يقدران بثمن متى ما وجد الاستثمار الأمثل. ولعل هذا ما استشعرته هيئة السياحة والتراث الوطني منذ زمن، في اهتمامها بالموروث عموما وبالجنادرية خصوصا، وصولا إلى افتتاحها هذا العام، تزامنا مع ثلاثينية الجنادرية، جناحا خاصا وثابتا يمكن للزوار الاستفادة منه باعتبار الهيئة المرجع الأول على مستوى المعلومة التراثية الموثقة والمدعومة بكثير من شركاء الهيئة المعتبرين أكاديميا وبيئيا وسياحيا.
#4#
الجنادرية تشهد أيضا إضافات معمارية متلاحقة تعبر عن كل منطقة من مناطق الوطن بأفضل طريقة ممكنة. فبينما يمكن لكثير من الدول أن تعبر عن تنوعها بقليل من التعريف والجهد، يصعب على دولة كالمملكة بحجم قارة، جغرافيا وثقافيا، أن تختزل كل هذا التنوع في عروض مبسطة ومختصرة. ولكن هذا ما تصدت له الجنادرية بإصرار وثبات يحسب لها وللقائمين عليها منذ انطلاقها على أرض تم تخطيطها نموذجيا لتتطابق في توزيعها وخارطة المملكة الحقيقية.
وبذلك فالجنادرية مشروع وطني طموح و"مفتوح المصادر" بحسب التعبير الحديث لكثير من المشاريع التي تعتمد على الآخرين المستفيدين في إثرائها. تماما كما تعتمد على مصادرها الداخلية. وهو ما بدا واضحا من خلال إثراء إمارة وأفراد كل منطقة لتراث منطقتهم المادي والمعنوي عاما بعد عام. ما خلق بدوره تنافسا محمودا بين المناطق لاستقطاب أكبر عدد من الزوار والمهتمين من داخل المنطقة وخارجها بل ومن خارج الدولة نفسها، إذ شهدت الجنادرية زيارات لمجاميع سياحية، عربية وغربية، حصدت في إثرها كثيرا من التوثيق والتدوين.
#5#
امتداد الجنادرية من رمز للوحدة الوطنية محليا الى أيقونة ثقافية عالمية يستدل بها الآخر، العربي والغربي، على مدى التنوع والتعايش الذي عاشته وتعيشه المملكة هدف ليس بالمستحيل بل مطلب ملح في زمن العصبيات المذهبية والهويات المنغلقة على ذاتها. وباستطاعة هذا التراكم المادي والمعرفي الذي حققته الجنادرية على مدى ثلاثة عقود أن يكون المنصة الجاهزة والأنسب لعمل هكذا، عبر العودة إلى تفعيل البرامج الثقافية الرائدة عربيا. ومن خلال استقطاب أسماء لها ثقلها على الصعيدين الثقافي والعلمي، وعن طريق تفعيل مبادرات ثقافية تنويرية منبعها الجنادرية، تعنى بالمبدعين في جميع العلوم والفنون الإبداعية.
#6#
وتبقى الجنادرية، انطلاقا من فكرتها الجامعة مكانا ملائما لالتئام الجهود الوطنية والعربية. ولتحقيق كثير من الغايات التراثية والثقافية. في وقت أشد ما يكون فيه العرب لمبادرات رائدة وحازمة تميزت بها المملكة بقيادة خادم الحرمين الملك سلمان بن عبدالعزيز.