«ذيب» .. فيلم عربي بعيون غربية
هناك حكايا مغيبة تختبئ خلف الكثبان الرملية والجو القارس للصحراء، برمالها الذهبية التي لطالما افتتن بها الغربيون وهرب من قسوتها من عاصرها. يظهر الفيلم الأردني الدرامي "ذيب" الذي خرج إلى الضوء في عام 2014، والذي أخرجه البريطاني الأردني ناجي أبو نوار ليظهر تلك النظرة الحالمة للحياة الصحراوية، من منطلق أجنبي، وإحلال الرؤية الاستكشافية عبر أحداث الفيلم، وهو أول فيلم روائي طويل للمخرج أبو نوار، بعد فيلمه السينمائي القصير "وفاة ملاكم".
الفيلم الذي لا يتجاوز الساعة وأربعين دقيقة، تدور أحداثه في غضون الحرب العالمية الأولى في عام 1916، وبدايات الثورة العربية، إبّان الخلافة العثمانية، ليسلط الضوء على صحراء جنوب الأردن. لتصبح تلك النظرة الأثيرية الساحرة التي تمازج بين جماليات الصحراء الذهبية، وطباع وعادات القبائل البدوية فيها بقصة جاذبة للانتباه، ما دفع الفيلم لأن يحصد عددا لا بأس به من الجوائز في المهرجانات الدولية، كمهرجان البندقية لأفضل مخرج، جائزة فاراييتي لأفضل مخرج في العالم العربي، وأهم من ذلك ترشح الفيلم لجائزة الأوسكار.
#2#
حاول المخرج ناجي أن يضع لمساته ذات الاهتمام بطراز أفلام الغرب الأمريكية، ليصبح أشبه بفيلم غربي بأحاديث عربية وأحداث أكثر بطئاً. وقد برزت فكرة الفيلم نتيجة افتتان المخرج ناجي بحياة البدو، وقضائه وباسل غندور عاماً في الصحراء للتعرف على الحياة البدوية من خلال أهالي منطقة وادي رم جنوبي الأردن واكتشاف البيئة الصحراوية، ليقوما بتطوير سيناريو مشترك لفيلم "ذيب".
تدور أحداث الفيلم حول قصة الطفل ذيب الذي يقرر اللحاق بأخيه حسين الذي أجاد دوره حسين سلامة، في رحلة وعرة تصبح في بحث غرائبي عن بئر مفقود، يقوده جندي بريطاني قام بتأدية دوره جاك فوكس، وبرع في تصوير المنظور الاستعلائي في تعامله مع أشخاص يختلفون عن ثقافته، دون إخفاء عجرفته. ليتسبب بقراراته بتعرض المجموعة إلى هجوم مسلح وبمجزرة دامية. ظهور عنصر المفاجأة يأتي من خلال ذلك الهجوم الذي يدفع بالتساؤل عن أسباب هذا العنف الضاري، وإن كان بسبب وجود الجندي البريطاني الذي يمثل عدواً للحكم العثماني.
فيما يختفي العنصر النسائي تماماً في الفيلم، وكأن لا مكان للمرأة في مغامرات وعنف الصحراء. وقد يعود ذلك نتيجة لأن الممثلين هم من غير المحترفين للتمثيل من القبائل البدوية في الأردن. وعلى الرغم من أن ذلك قد يسبغ صعوبة في الإخراج والتحكم في الممثلين، إلا أنه أضفى أداء عفويا وتصويرا أكثر صدقا ولفتا للانتباه، بالأخص نتيجة استخدام اللهجة المحكية البدوية للأردن.
يظهر فيلم "ذيب"، شبيها بطراز الفيلم الموريتاني الإبداعي "تمبكتو" الذي سلّط الضوء على تعرض تلك البلدة المسالمة لجماعة مسلحة متطرفة. مثل هذه الأفلام تترع في اهتمامها بالتطرق الانسيابي للجانب الإنساني لحياة مغيبة لا يدرك العالم قسوتها، ما دفع هذه التجارب للحصول على إقبال جماهيري تستحقه فعلاً.
اختيار العنوان "ذيب" يرمز إلى التفاخر القبلي بالقوة والشجاعة، في الوقت ذاته الذي يظهر العنوان أهمية دور الطفل "ذيب" وهو الشخصية المحورية في الفيلم، وقد برع في تأدية دوره جاسر عيد، من خلال قدرته على إثبات حضوره والتعبير عن قلقه ومخاوفه، ومحاولة الالتزام برباطة جأشه، كل ذلك عبر تعابير وجهه ذي الملامح البريئة. في العنوان كذلك استدلال على طريقة السرد من منظور استكشافي لطفل فضولي، يتعرض لما لا يستحق أن يعيشه طفل صغير، من مواقف شديدة القسوة تثير القلق النفسي والخوف.
وكأن رحلته تسبب بمرحلة تحور له وإرغامه الخروج عن عباءة البراءة، بالأخص أثناء مقابلته للرجل الجريح حسن المطلق، أحد المسلحين الذي لم يتورع عن الهجوم عليه وعلى أفراد جماعته، ليتعلم من تجربته القاسية الانتقام واستخدام العنف. وما يؤخذ على الفيلم بدايته الرتيبة التي تظهر كاستعراض تقليدي للعادات القبلية بطريقة مباشرة غريبة ككرم الضيافة بالأخص مع الغربيين، إلا أن الأحداث تدريجياً تنحو للتعقيد وتلفت الانتباه.
الفيلم يترع في ذلك الصراع في سبيل الحياة، عبر رحلة صحراوية قاسية. وقد تميز التصوير السينمائي بقدرته الجاذبة على تسليط الضوء بعدسة كاميرا متنقلة، على جماليات الصحراء العربية، حيث تذوب في تضاريس الصحراء والصخور الصلدة، بالموسيقى الأثيرية التي تعكس حالة القلق أو الحزن النفسي حسب الأحداث. فيما يظهر تكرار استخدام تقنيات الإضاءات والظلال في عدد من المشاهد، والاستفادة من الظلام لتسليط الضوء على الوجوه وتقريب الكاميرا منها عند وجود حدث مهم. مع استخدام أسلوب التحفيز والترقب لما سيحدث، كاختفاء بعض الشخوص في الظلام والإعمال في إحداث حالة الترقب حتى العودة التدريجية عبر الظلام وكأن في ذلك إفشاء عن سر مرتقب.
وعلى الرغم من اختيار زمن التغيرات الجذرية لحقبة تاريخية مفصلية، إلا أن ملامحها لا تظهر إلا عبر مرور سريع كذلك الحضور للجندي البريطاني الذي يجسد صدام الحضارات، فيما لا تظهر ملامح الحكم العثماني في الأردن إلا عند الاقتراب من نهاية الفيلم، فالحضور الجغرافي للبيئة الصحراوية والحياة من خلالها هو أبرز ما يحويه فيلم "ذيب" والحالة الانتقالية من البراءة نحو التجلد وإدراك سبل التعامل مع التصحر الجغرافي والإنساني. كل ذلك من خلال عيون غربية استكشافية مفتونة بخرافة شرق زاهر.