محمد زفزاف.. كتبَ عن الموت حبا في الحياة
لا سلطة تعلو فوق سلطة الموت وتقهر جبروته سوى قوة الإبداع، فما أكثر أولئك الذين يختطفهم الموت بيننا لكن قلة من هؤلاء تمكنت من كسب معركة العيش والبقاء بعد الماء بأحد أعمالها أو كلها. الروائي المغربي محمد زفزاف واحد من هؤلاء فبعد عقد ونصف من رحيله (2001-1945) تتصارع ثلاثة دور نشر عربية (مغربية، مصرية، وسورية) للحصول على حقوق إصدار الأعمال الكاملة للراحل.
شاعر الرواية
لا غرابة أن يحدث هذا مع "شاعر الرواية المغربية"- كما عُرف في الأوساط النقدية العربية- الذي لا يتردد كثيرون من العودة إلى أعماله، كلما ضاق بهم ما يروج من أدب اليوم. وواحد من أكثر الكتاب المغاربة مقروئية في العالم العربي، فإبداعات زفزاف تجاوزت المحلية، وترجمت بعض أعماله إلى لغات أخرى، بل واعتمد عناوين من قبيل رواية المرأة والوردة مثلا في جامعات عالمية مثل جامعة بوردو في فرنسا وجامعة لندن في هولندا.
كانت البدايات الإبداعية للراحل في زمن ستيني بالشعر قبل أن يتحول للقصة وأخيرا الرواية التي نحت بها اسمه في سجل الإبداع العربي والعالمي، من خلال الوفاء لمبادئه في الكتابة ومنها الخصوصية المغربية ورحابة الانفتاح على عوالم ثقافية جديدة (الأوروبية، الروسية، والشرقية...). كل ذلك جعله في زمرة الجيل الذي أسس الرواية والقصة بالمغرب، وإن تميز عنهم بقلقه الوجودي وحداثته ونزعته التجديدية. وعلة ذلك كما أفصح عن ذلك غير مرة أن الجيل، الذي ينتمي إليه هو جيل بلا آباء فهو اتخذ من بعض الروائيين العرب والعالميين الذين كان ينكب على قراءتهم باستمرار آباء له.
يحدث كل ذلك دون التفريط أو الخروج عن عوالم الهامش، فهو المنتصر على الدوام في كتاباته للواقعية التي تستقي موضوعاته من حركية الواقع الاجتماعي بكل تناقضاته، فكتب عن حياة المقهورين والمنبوذين المهمشين في الشوارع، وعن الطبقة البرجوازية التي تستغل بؤس الفقراء والعمال.
دفء إنساني
بصيغة أخرى، نقول إن زفزاف كاتب اجتماعي غاص في أعماق المجتمع، وعاش واقع القهر والحرمان الاجتماعي (اليُتم)، وعبر عنه بوضوح وصدق ومهارة أدبية، وبلغة شاعرية سلسة فيها دفء إنساني، ودعا في مقابل ذلك لمجتمع تسوده الأخلاق الإنسانية والعدالة الاجتماعية.
أفكار وقناعات لم يجعلها الكاتب حبيسة عوالمه الروائية، بل تمثلها في واقعه المعيش في حي شعبي بالمعاريف بمدينة الدار البيضاء، حيث منزله الذي تحول إلى شبه مزار يحج إليه الكبار والصغار وعشاق الحرف والكلمة. ولم يسع قط إلى الشهرة في حياته، كما أنه لم يُشهد له البتة بتهافته وراء الأضواء ووسائل الإعلام والدعاية. فالشهرة هي التي سعت إليه، غير أنها لم تستطع أن تغير من أصالته ونبل قيمه، ومن وفائه لمبادئه ومواقفه وهو الذي عاش بسيطا إلى حد الحرج ومات بسيطا. واقع صورته الإعلامية سعيدة شريف إحدى صديقات الراحل وتلميذاته صورة بليغة بقولها: "لقد كان الأدب المغربي بحاجة إلى مخلّص، يُعذبه الفقر والمرض، ويموت بدلاً عن جميع الكتاب والأدباء المغاربة، فوجد الكاتب محمد زفزاف".
#2#
يكتشف قارئ زفزاف أنه استطاع وعن بينة ودراية إخفاء صوت الراوي ودمجه في ثنايا النصوص حتى أضحى عصي التمييز بين صوت السارد وصوت المؤلف، وبدا ذلك جليا في عدم كتابة الراحل لسيرة ذاتية مستقلة لكنه بثها في جميع رواياته. غير أن هذه السلطة افتقدها الكاتب في تعامل شخصيات بعض الأعمال؛ مثل ما هو عليه الحال في رواية "أفواه واسعة" (1998) حيث ثارت الشخصيات على الكاتب الذي كان يعتقد أنه خلق تلك الشخوص في حين هي تتحكم فيه فأصبح هو نفسه ضحية لها.
ثيمة الموت
الزهد في الدنيا جعل ثيمة الموت حاضرة في أعمال الكاتب، وبقوة في آخر أعماله حيث لم يتردد في القول إن "النصر للموت في آخر الأمر"، وكأن المبدع قد استشعر قرب رحيله فأبى إلا أن يتصالح مع الموت.
وهو ما عبر عنه في حوار معه نشر بعد وفاته حين سئل عن أهمية الكتابة بالنسبة إليه، فكان الجواب بليغا: "أصبحت الكتابة بالنسبة لي هي وجودي: إذا لم أكتب فكأنني لم أعد أرغب في العيش. وعندما أقول إذا لم أكتب فإني أقول في الوقت ذاته إذا لم أقرأ يومياً فكأنني لا أعيش. أنا شخصياً مقتنع أنني لم أخلق لأنجب أطفالاً أو لأملك ثروة أو لأتهافت على مناصب دنيوية. فأنا على رغم أني أركز على ثيمة الموت في كتبي - وبعض النقاد يعتبرون ذلك نقيصة - ... أعتبر أن التركيز على الموت هو تشبث بالحياة وتشبث بقيم الخير في هذه الدنيا الفانية، فالدنيا هي مؤنث للأدنى. والأدنى في اللغة العربية معناه الحقير، الصغير، المنحط... هذه هي الدنيا ووضعنا فيها هو وضع العابر سواء كان الواحد منا حاكماً أو محكوماً، ولذلك أركز على ثيمة الموت. فالموت، حينما نشعر به يجعلنا نحب الحياة ونحب فعل الخير".
لقد كان التصالح ظرفيا في حقبة الصرع مع مرض السرطان فقط، فزفزاف عاد من جديد ليس بطبعه أعماله ولا بدراستها في الرسائل والأطاريح الجامعية ولا حتى بإطلاق اسمه على جائزة (جائزة محمد زفزاف للرواية العربية) في موسم أصيلة الثقافي، وإنما بحلوله بطلا في بعض الأعمال الروائية الصادرة حديثا. وكأننا بزفزاف يثبت مصطلح المبدع العالمي الشهير باولو كويلو «أسطورة الكاتب»، إذ في نظره على كل كاتب أن يشيد أسطورته الخاصة إذا أراد أن يبقى موجودا في رحاب الأدب إلى الأبد.
محاولة عيش
أي نعم، فالراحل (محمد زفزاف) بطل رواية الكاتب المغربي نور الدين صدوق الموسومة بعنوان (الروائي: محمد زفزاف يكتب "الثعلب الذي يظهر ويختفي") (2011)؛ ومعلوم أن رواية "الثعلب الذي يظهر ويختفي" (1985) وقبله "المرأة والوردة" (1972) و"الأفعى والبحر" (1979) و"محاولة عيش" (1985) من الأعمال الروائية التي أسالت كثيرا من المداد نقدا ودراسة وتحليلا.
نجد زفزاف حاضرا بقوة أيضا في مؤلف بعنوان معبر "صديقي زفزاف: الغيلم والطاووس" للمبدع المغربي عبدالرحيم التوراني، بأسلوب سردي يمزج بين السيرة الذاتية والسيرة الغيرية؛ هو عبارة عن محكيات جميلة يكشف فيها التوراني علاقته بزفزاف، وبعض من مسارات حياة الرجل.
بقي أن نشير في الأخير إلى أمرين يتعلق أحدهما بكون الراحل واحدا من بين نفر قليل من الأدباء ممن لا يضعون تصميما لقصصهم أو روايتهم، بل يطلقون العنان للقلم على سجيته، ويتصل الآخر باختيار المستشرقة الروسية أولغا فلاسوفا محمد زفزاف على رأس أربعة كتاب عرب لهم مكانة خاصة لديها، وتشعر تجاههم بود خاص يتعدى الصداقة إلى نوع من الأخوة والأمومة، وهم: سعد الله ونوس، ويوسف رزوقة، والطاهر وطار.