كيف أصبحت الصين قوة اقتصادية عظمى؟

كيف أصبحت الصين قوة اقتصادية عظمى؟

أثار النمو الاقتصادي الصيني الذي بدأ قبل عقدين وما زال مستمرا، تعجب وإعجاب دول العالم، إذ يعتبر معدل النمو العام شبه معجزة اقتصادية عالمية، خصوصا في المدة الزمنية القصيرة التي تحقق خلالها، وفي قدرته على الاستمرار مرتفعا، رغم الأزمات المالية المختلفة التي وقعت خلال العقدين الأخيرين. وقد كشف تقرير حديث صادر عن البنك الدولي أن اقتصاد الصين قد يتخطى الاقتصاد الأمريكي ليصبح الأكبر في العالم أواخر عام 2016، في مؤشر ينذر بتحول القوة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق. كان حجم اقتصاد الصين أقل من نصف حجم الاقتصاد الأمريكي في عام 2005، ثم شهدت الصين في السنوات الماضية نموا كبيرا في الاقتصاد بمعدل 10 في المائة. وصل النمو إلى 24 في المائة بين عامي 2011 و2014. وهذا التطور الكبير بحسب المحللين الاقتصاديين هو ثمار اعتماد الصين برنامجا اقتصاديا إصلاحيا انفتحت من خلاله على التجارة العالمية أواخر السبعينيات، وقد بلغ متوسط النمو الاقتصادي 9.9 في المائة سنويا من عام 1978 حتى عام 2012. البرنامج الإصلاحي الصيني أعلنت الصين في عام 1978 فتح الباب أمام التجارة العالمية وحددت اليوان كعملة تجارتها الخارجية، في واحدة من خطواتها الأولى لإصلاح النظام الاقتصادي، والاستفادة من مواردها البشرية الضخمة. صنعت الصين كذلك أربع مناطق اقتصادية لتشجيع الاستثمار الأجنبي، وفي العام 1982 وضعت خطة لست سنوات تهدف لتحقيق النمو في اقتصاد السوق. بعد بضعة تعثرات، دخلت الصين في منظمة التجارة العالمية، وفتحت أسواق الأسهم للمستثمرين الأجانب وعدلت بنودا في الدستور من أجل حماية الأملاك الخاصة ووقعت على اتفاق تحرير الأسواق مع عشر دول جنوب شرق آسيا، وعملت على تقوية العلاقة الاقتصادية المباشرة مع أمريكا لمواجهة التحديات بعيدة المدى. وفي عام 2008 استثمرت الصين 586 مليار دولار في مشروع لدعم البنى التحتية ومجالات عدة مختلفة. واجتذبت الصين تدفقا مستمرا من الاستثمارات الأجنبية منذ انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001، إذ تسابقت الشركات لدخول سوق الدولة الأكبر في العالم من حيث عدد السكان. الاستثمار في الأيدي العاملة منذ بدايات الثمانينيات جرى تشجيع الصينيين على الاستثمار في مجموعة واسعة من المؤسسات الصغيرة، في حين خففت الحكومة من الرقابة على الأسعار وشجعت الاستثمار الأجنبي. وركزت الصين على التجارة الخارجية بوصفها وسيلة رئيسة للنمو، الأمر الذي أدى إلى إنشاء مناطق اقتصادية خاصة أولا في شينتشين (بالقرب من هونج كونج) ثم في غيرها من المدن الصينية. جرت أيضا إعادة هيكلة الشركات غير الكفء المملوكة للدولة من خلال إدخال النظام الغربي في الإدارة بينما أغلقت الشركات غير المربحة، ما أدى إلى خسائر هائلة في الوظائف. يرجع النمو السريع في الاقتصاد والصناعة في الصين إلى سياسة الانفتاح على العالم التي بدأت أواخر السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي عبر إرسال البعثات إلى البلاد الغربية لتعلم الهندسة والاقتصاد وطرق الإدارة الحديثة بغرض التطوير الاقتصادي في البلاد. وتم الاعتماد على "التقنوقراط" أي الإداريين في حل مشاكل الصين ودفع عجلة التطوير وتشغيل الصينيين، فكان هؤلاء خير نخبة يعتمد عليها في حل المشاكل في الصناعة والتطوير العملي والانتقال من مجتمع زراعي بحت إلى مجتمع صناعي. وتحولت المجموعة الحاكمة في الصين من الفئات الحزبية الصرفة إلى مجموعة من الإداريين المتعلمين في الجامعات الغربية، وهذا ما أسهم في تحسين أداء الاقتصاد الصيني وفي تسريع انفتاح الصين على العالم. ومنذ التحرير الاقتصادي في عام 1978 نما اقتصاد جمهورية الصين المعتمد على الاستثمار والتصدير، 70 مرة وأصبح أسرع الاقتصادات الكبرى نموا في العالم، ويحتل الاقتصاد الصيني حاليا المرتبة الثانية عالميا من حيث الناتج المحلي الإجمالي بعد الولايات المتحدة. ويعود نجاح الصين الاقتصادي بشكل أساسي إلى التصنيع منخفض التكلفة. ويعزى إلى الأيدي العاملة الرخيصة والبنية التحتية الجيدة ومستوى عال من التكنولوجيا والمهارة الإنتاجية المجتهدة والسياسات الحكومية المواتية، ويضيف البعض السعر المخفض لصرف العملة. وتساهم الصين بحصص مرتفعة من الإنتاج العالمي للصناعات الأساسية كصناعات الصلب والألمنيوم، والصناعات التجهيزية والاستهلاكية (في طليعتها صناعة اللعب والنسيج والأحذية). وسجلت الصين تطورا كبيرا في مجال الصناعات العالية التكنولوجيا منها الصناعة الإلكترونية والمعلوماتية ومعدات غزو الفضاء. وتتمركز معظم هذه المناطق الصناعية في الواجهة الساحلية الشرقية حيث نجد مدنا رئيسية في مقدمتها شنغهاي، بكين، شانج شيون، تيانحين كوان زو. وتعد الصين قوة تجارية كبرى، وتحقق فائضا كبيرا في ميزانها التجاري حيث تضاعفت صادراتها أكثر من مرة خلال العقد الأخير. وقد بلغ عدد سكان الصين سنة 2014 مليار و366 مليون نسمة أي ما يناهز خمس سكان العالم. ويفسر ذلك بالتعمير السكاني القديم وبمعدل التكاثر الطبيعي الذي ظل مرتفعا إلى غاية العقد السادس من القرن الـ 20، ما أتاح وفرة الأيدي العاملة والسوق الاستهلاكية. لذا ترتبط قوة الصناعة الصينية بأسس تنظيمية علمية تقنية بشرية وطبيعية، ففي مرحلة البناء الاشتراكي، أممت الدولة الصينية وسائل الإنتاج وضمنها المصانع، وأعطت الأولوية في البداية للصناعات الأساسية والتجهيزية قبل إقرار ما عرف باسم "المشي على قدمين". ثم نهجت سياسة القفزة الكبرى إلى الأمام التي استهدفت تحقيق الإقلاع الاقتصادي بتعميم الصناعة في المدن والبوادي والاعتماد على الطاقة البشرية وإنجاز الأشغال الكبرى كالسدود وشبكة المواصلات. وفي مرحلة الإصلاحات الجديدة والانفتاح على العالم تم إحداث المؤسسات الصناعية الجماعية والمؤسسات المختلطة وتخفيف احتكار الدولة للنشاط الاقتصادي واستقطاب الاستثمارات الأجنبية بإحداث المناطق الحرة (التي يحصل فيها المستثمرون على تسهيلات إدارية وإعفاءات جمركية وجبائية). الأولى على مستويات مختلفة وساعد البحث العلمي والتكنولوجي على تقدم الصناعة حيث اهتمت الصين بنشر التعليم وتكييفه مع متطلبات العصر ورفعت من نفقات البحت العلمي والتكنولوجي، ما أثمر عددا ضخما من التقنيين والمهندسين. كما عملت على تقليد أو شراء براءات الاختراع الأجنبية، وأبرمت اتفاقيات التعاون وتبادل الخبرات في هذا المجال مع الدول المتقدمة. وتساهم الصين بحصص مرتفعة من الإنتاج العالمي لمصادر الطاقة كالفحم الحجري والبترول والغاز الطبيعي ولمجموعة من المعادن كالحديد والزنك والرصاص والفوسفات محتلة بذلك المراتب الأولى عالميا. وتتمركز مناجم الفحم في الصين الشمالية والجنوبية، بينما تتجمع آبار البترول والغاز الطبيعي في الغرب الصيني والصين الشمالية، حيت توجد أيضا مناجم الحديد. أما بالنسبة لقوة التجارة الخارجية للصين فيمكن ردها إلى عدة عوامل منها، القدرة التنافسية للمصنوعات الصينية، فضلا عن تنوعها، وتوافر موانئ كبرى وأسطول تجاري ضخم، عدا عن عقد اتفاقيات تجارية مع مختلف دول العالم، وتدفق الاستثمارات الأجنبية على الصين، مقابل تزايد الاستثمارات الصينية في الخارج، وأخيرا وليس آخرا، انضمام الصين إلى المنظمة العالمية للتجارة وإلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وكان معهد الاقتصاد الصناعي بالأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية بالاشتراك مع دار النشر لوثائق العلوم الاجتماعية يوم 24 أغسطس الحالي في بكين قد أصدر "الكتاب الأزرق للصناعة" الذي يتناول صناعات الصلب والطاقة والسيارات في الصين وإنتاج الفحم الصيني ومنتجات معدنية غير حديدية والاستهلاك، وسوق السيارات وصناعة المعلومات الإلكترونية التي احتلت الصدارة في الأسواق العالمية بحسب الكتاب. وجاء في الكتاب الأزرق أن الصين أكبر منتج للفحم في العالم، إذ بلغت نسبة إنتاجه أكثر من 40 في المائة من الإنتاج العالمي، والعائد من الفحم أعلى بكثير من عائداته لدى الدول الأخرى المنتجة له. وتحتل الصين المرتبة الأولى في العالم لإنتاج الصلب الخام. وعلى الرغم من عدم وجود الصين في المرتبة الأولى عالميا في صناعات الطاقة الأخرى، لكنها احتلت مكان الصدارة في العالم. فعلى سبيل المثال، هي ثاني أكبر منتج للكهرباء وخامس أكبر منتج للنفط ودولة منتجة للغاز الطبيعي. سياسات حكومية صائبة والصين هي الاقتصاد الكبير الوحيد الذي من المرجح أن يشهد نموا كبيرا هذا العام، والسبب الرئيسي وراء عدم تباطؤ اقتصاد الصين بقدر تباطؤ الاقتصادات الخمسة الكبرى في العالم هو قدرتها على التدخل الحكومي في الأوقات العادية، فقد حدت من الاستثمارات الأجنبية في القطاع المصرفي وابتعدت عن المبتكرات المالية الجديدة التي تشكل نواة أزمة القروض العالمية الحالية. أما سبب نجاح النموذج الرأسمالي الصيني الموجه فلطالما حير علماء الاقتصاد، الذين غالبا ما يعتبرون الحكومات غبية والأسواق شديدة الذكاء بشكل فطري. في أوقات الأزمات، بإمكان البيروقراطيين الصينيين أن يختاروا من بين الأدوات التقليدية لإدارة الأسواق، مثلما يفعل نظراؤهم الغربيون، ويمكنهم أيضا الاختيار من الأدوات المتوافرة فقط في نظامهم الرأسمالي الموجه، فقد أطلقت جهود إنقاذ اقتصادية شبيهة بتلك التي اعتمدها الغرب، بما فيها خطة ضخمة (بقيمة 600 مليار دولار) لتحفيز الإنفاق الحكومي وتخفيض معدلات الفائدة إلى حد كبير. الرأسمالية الأوتوقراطية توافر النمو الاقتصادي، في حين أن الحزب يحافظ على سلطته السياسية. والصين ناجحة لأنها تركز على الانتقال البطيء لكن المطرد نحو أسواق أكثر تحررا. وقد شبه دينج هذه العملية بـ"اجتياز نهر من خلال تحسس الحجارة تحت القدمين". لا يزال للدولة نفوذ قوي يرسي الاستقرار، لكنها أطلقت العنان لقطاع خاص أصبح يسيطر على نصف الاقتصاد على الأقل، أو على ما يقارب الـ70 في المائة منه إذا احتسبنا الشركات التي تملكها الدولة، التي يسمح لها في الواقع بالعمل كمؤسسات خاصة. فانفتاح الصين على الاستثمارات الغربية خلال تطورها الاقتصادي سبق انفتاح اليابان أو كوريا الجنوبية خلال تطورهما، هذا الانفتاح حدث في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، عندما كان معدل الدخل السنوي لا يتجاوز 760 رينمينبي (500 دولار)، فقد أدرك الرئيس الصيني حينها "دينج" أن التجارة العالمية هي المخرج من الفقر الوطني. لكنه سمح أيضا للفلاحين بأن يبحثوا عن وظائف في المدن. وخلال الأزمة المالية الآسيوية في أواخر تسعينيات القرن الماضي، انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية، متعهدة بجعل أسواقها المحلية أكثر انفتاحا. وفي الوقت نفسه، سمحت الحكومة للعمال الذين تم صرفهم من معامل شهدت تخمة في عدد العمال بأن ينشئوا مؤسسات تجارية خاصة بهم وأن يشتروا العقارات السكنية التي تملكها الدولة بأسعار متدنية جدا، ما أدى إلى مجتمع قائم على الملكية بين ليلة وضحاها، ومهد السبيل لنشوء الطبقة الوسطى. تواصل الصين مسيرتها نحو مزيد من الإصلاحات في قطاعات أساسية من السوق، فيما تعيد فرض سيطرتها على قطاعات أخرى. المصارف هي أحد الأهداف الرئيسة للإصلاحات، ولهذه الغاية، لم تعد الصين تكتفي بالمتاجرة بالأسهم التقليدية وأصبحت تعتمد أنواعا جديدة من الأسهم المعقدة، بما فيها صناديق الاستثمار في مؤشرات الأسهم والسندات التجارية وغيرها من أدوات الاستثمار بالديون، وحتى المتاجرة بالعقود الآجلة، مع أنها عقود آجلة بسيطة تتعلق بأسعار النفط، بدلا من المشتقات الائتمانية المعقدة التي أدت إلى انهيار الأسواق الغربية. إن إدراك القادة الصينيين، حتى في خضم أزمة القروض العالمية، أن أنواعا أكثر تعقيدا من الأسهم يمكن أن تلعب دورا يزيد من الاستقرار هو دلالة على تفكيرهم الاستراتيجي، ومهاراتهم العالية في التعلم من أخطاء الآخرين. أما البرنامج الجديد لإصلاح قوانين العقارات فهو أكثر تبصرا، وهو سيتيح للفلاحين الصينيين تأجير أراضيهم للأجانب (بما في ذلك الشركات التجارية). وقدرت شركة "جونز لانج لاسال" الاستشارية المختصة بقطاع العقارات أن إصلاح قوانين العقارات قد يحرر عقارات ريفية بقيمة 2.5 تريليون دولار تقريبا. وتحويل الفلاحين إلى مستهلكين يملكون أراضي قد يسهم إلى حد كبير في تأسيس مجتمع استهلاكي، ويقلل من اعتماد الصين على الصادرات، ويعيد التوازن إلى الاقتصاد العالمي.
إنشرها

أضف تعليق