التعلُّم بـ «الحَكي» .. لكل منا حكايته الخاصة

التعلُّم بـ «الحَكي» .. لكل منا حكايته الخاصة

"فعل الحكي لا يكون بالارتجال، بل يتم تعلمه خلال مرحلة الطفولة. هذا التعلم ضروري للذات من أجل التفكير، والربط والتصور الخلاق". هذا ما يقوله المفكر المعاصر فيليب ميريو. على عكس ما عرف عن الحكي في كثير من الثقافات إذ يربط غالبا بسنوات العمر الأولى بكل ما فيها من ارتجال.
وفي ترجمة لمحمد أبرقي لهذه الدراسة يشير ميريو إلى اهتمام ج. بياجي سنة 1925 بالطريقة التي يتوصل بها الأطفال، مرحلة 4 - 12 سنة، إلى بناء سرد انطلاقا من صورتين: "لاحظ جيدا هاتين الصورتين. إنها الحكاية نفسها. الأولى تمثل البداية والأخرى هي نهاية الحكاية. لاحظ جيدا ثم قص علي كامل الحكاية". الأطفال الذين خضعوا لهذا الاختبار يواجهون صعوبات كبيرة للربط بين الصورتين، على الرغم من أنها تبرز، وبكيفية صريحة، الشخصيات نفسها، والروابط الممكنة بين الوضعيتين سهلة التصور والتخيل.
إلى غاية ثماني سنوات، ثلاثة أرباع الأطفال (4/3) غير قادرين على تعرف وتمييز الشخصيات المشتركة في الرسم، وإن كانت جلية (ولو أخبرناهم بأن الحكاية هي نفسها في الصورتين). يرصد الأطفال تدريجيا إمكانية ربط علاقة فيما بعد سن الثامنة، هو ما دفع بياجي إلى الختم بأن "الصعوبة في تمييز الشخصيات المتناسبة لسلسلة صور ليست سوى الحالة الخاصة لصعوبة أكثر عمومية عند الأطفال، التي يمكننا تسميتها صعوبة الربط المتداخل بين تجميعات منطقية". من المؤكد أن أطفال اليوم ليسوا أطفال 1925، وهم يسبحون مبكرا في تيار من الصور المتحركة، التي من المحتمل جدا، أن تعمل على تسهيل نجاحهم في اختبار ج.بياجي، ومؤكد أيضا أن البروتوكول البياجيتي يعمل على تحييد، وبشكل إرادي، كل تدخل بيداغوجي ميسر، ولكن، مع ذلك، فإن تجربة بياجي تظل نسبيا محافظة اليوم على راهنيتها: لها الاستحقاق في إبراز أن "خلق التمفصل" و"ربط العلاقة" و"الابتكار من أجل الربط" هي ليست سلوكا تلقائيا، وأنها صعبة الاكتساب، ويلزم إذن أن تكون موضع تكوين.
إن أغلبية المدرسين، يمكنهم، مع ذلك، التحقق وبسهولة كبيرة من هذه الظاهرة: فليحاولوا عرض حكاية رسم تصويري لطفل في الحضانة، وليبذلوا جهدا لإعادة بناء حبكة سردية على لوحة شريط مصور لتلميذ في المدرسة الابتدائية، أو، حتى، فليطلبوا من تلميذ في الإعدادي ابتكار حكاية .. إنهم سيجدون أنفسهم غالبا في مواجهة أحداث تتناظر وتتقارب كهيئة مشكال دون أن ينبثق عنها سرد مفهوم.
الروابط المنطقية السردية التقليدية ("إذن"، "فجأة"، "ولكن إذا"، "وبالنتيجة"، "لأن" ...إلخ) ليست، أو أنها محدودة الاستعمال، والتعبيرات المبنية التي تسمح بجعل وضعية ما "محكية"("بسبب هذا فإن ..."، لقد فهم ..."، "لقد قرر ..."، "صارت الوضعية ...") هي غالبا متجاهلة.
إن هذه الصعوبة في الولوج إلى سرد مبني تمثل إشكالية، وإذا لم تؤخذ بعين الاعتبار بواسطة منهجية محددة في المدرسة، ولم تعزز عبر ممارسات عائلية منتظمة (قراءة وقص حكايات، تبادل مستملحات قصصية، القيام بتدوين اليوميات ضمن نص سردي ...) فإنها تشكل إعاقة عميقة من أجل نمو الشخصية، وولوج التفكير، بل حتى، وببساطة، من أجل التواصل اليومي المهني (الذي هو عادة مهيكل بمنزلة حكي سردي)، لأنه، وكما يعلمنا إياه ب. ريكور، السرد هو بنية لغوية تنشئ معنى: إنها تحول الوقائع (الفوضوية، وبالتعريف اللانهائية) إلى أحداث يتسلسل بعضها في البعض’ وتسمح بالتالي، وفي الآن نفسه، بعزل ما نختاره وما نفضله، وبوضعه في علاقة باختيار وجهة نظر خاصة. لأجل ذلك، من جهة المرسل، فإن السرد هو عنصر أساسي لبناء الهوية، في طرفيها المتلازمين، وهما، الوحدة والابتكارية، يشرح لنا جيروم برونر أن "فعل السرد يعني بناء حكاية ستقول من نحن، وما الذي وقع ولماذا نفعل ما نفعله" ولكن هو أيضا وسيلة – ضمنية أو صريحة - لاستكشاف إمكانات: حينما أقول "لقد قمت بهذا" فإنني أقول أيضا، وبطريقة معينة"كان ممكنا لي القيام به بشكل مختلف". وحينما لا تكون الأشياء غير واقعية الحدوث، فإن هذه الفكرة لم تخطر ببالي، والسرد يفتح أمامي، على الأقل، آفاقا لاحقة في وقت قريب أو غدا.
السرد - سواء تكلمت على نفسي أو غيره - يتضمن دائما مظهرين: ما أقوله، والطريقة التي بها أركب الأحداث ضمن زمنية تمنحها معنى، ثم الحذف الذي لا مناص منه، وما أسكت عنه قصدا أو لا إراديا، تردداتي، ارتداداتي نحو الخلف، مستويات صمتي، حتى الخفية منها، تأسفاتي، حتى المتبدى والمرئي منها بصعوبة.
هناك إذن، في كل سرد شيء ما من المنتظر، ومن العام، (الذي يحدد ويميز النص المحكي ضمن فئة ما: الدراما، الحكاية الغريبة، الحكي الروائي ...) وجزء من اللامنتظر، والذي يبرز دوما، بدرجة ما، حصة من الانفتاح، وهو أيضا إمكانية رائعة للقيام بـ"التجربة السردية للحرية".
من جهة المتلقي للحكي، تقع أيضا أشياء مهمة: إنه يتعلم تدريجيا كيف يكتشف بأن، وتبعا لتعبير ج.برونر"كل سارد له وجهة نظر، ولكل الحق الثابت لمساءلته". أيا كانت جهود المخاطب قصد "إرساء" وتثبيت حكيه في الواقع، فلا يمكنه تفسير كل شيء، والبرهنة على كل شيء، وأيضا بشكل أقل، شطب كل المنافذ التي لم يسلكها البطل - الذي يتحدث أو الذي عنه نتحدث - فكل سرد يفتح دوما على التساؤل: إنه يعمل، وفي الآن نفسه، على تجنيد الخيال وإجراء التحقق. إنه يسائل المنصت له، وليس لأننا نترك أنفسنا "ننقاد" لذا نمتنع عن جعل ذكاء السرد الخاص بنا يشتغل ... بل العكس، لأن كل سرد يشتغل كـ"تروس مسننة"، إنها تعمل توازيا وبترابط، ولذلك ينبغي للبيداغوجيا أن توليها مكانة مهمة. من الواجب، في الآن نفسه، أن نقص حكايات على الأطفال ونجعلهم يقصون الحكايات، الأدوات كما المضامين، الممتلئ والفارغ من الحكايات التي نرويها لهم تشتغل بمنزلة منبهات وعناصر تحريك تغني سردهم الخاص.
في العائلة كما في المدرسة، بشكل مبكر، التعليمات نفسها يمكنها أن تشيد كسرد. ينبغي أن يتعلم أطفالنا، وهم يتكلمون معنا، مفصلة الوقائع الرئيسة وتمييز ما يمثل حدثا بالنسبة لهم. ينبغي استعمال لعب اللغة التي تسمح بفتح السرد على الخيال، وعدم تركه مقفلا ضمن نص محضر مغلق. ينبغي أن تسمح النصوص الأدبية للأطفال بالتعبير عن هذه الرغبة الوجدانية التعاطفية، التي وصفتها "مارتا نوسبوم"، والتي هي شرط علاقاتنا السلمية. ينبغي تقديم الدرايات والمعارف والنظريات الفكرية والنماذج العلمية كحكايات: حكاية أفراد قاموا بتعبئة كامل ذكائهم من أجل اختراق العوائق، وهدم الأحكام المسبقة والعمل على انبثاقنا. السرد يجعل الذكاء حيا في العمل. إنه يسمح لكل واحد بالتحمل والابتكار الذاتي. ويمكن القول أكثر من ذلك إنه يسمح بالتكون كذات.

الأكثر قراءة