المسافة الآمنة
تعلمت بالخبرة الشخصية، وليس من خلال الأنظمة المكتوبة، التي تدون على الورق، ولا تطبق، أن وجود مسافة بينك وبين السيارة التي أمامك، تمثل إجراء وقائيا، يقي من الحوادث، بعد حماية الله. في الطرقات المزدحمة، وفي أوقات الذروة، حين يكون الجميع حريصا على الوصول إلى عمله، أو منزله، تكثر الحوادث، وتزداد آثارها السلبية، حين تكون المسافات متقاربة بين السيارات.
شاهدت، في شوارعنا، عدة مرات طابورا من السيارات المتوقفة لوجود حادث، وكلها متضررة، والسبب عدم وجود مسافة كافية تفصل في ما بينها، إذ بمجرد اصطدام سيارة من الخلف بإحدى هذه السيارات، فهذا كفيل بدفع كل السيارات التي أمامها على بعضها، لتتضرر كلها، ويدخل الجميع في مرحلة المعاناة مع الورش، والتأمين، والتعطيل.
المسافة الآمنة في معناها التطبيقي، ليست مقتصرة على قيادة السيارات، بل في جوهرها تمثل مبدأ نفسيا يمكن تفعيله في مجالات عدة، أهمها في العلاقات مع الآخرين، إذ إن عدم وجود مسافة بين المتخاصمين يزيد من إمكانية الاشتباك بينهما، وتبادل اللكمات، وحدوث ما لا تحمد عقباه، ولذا من الحكمة تجنب المواقف، والأشخاص الذين من الممكن أن يترتب على القرب منهم أي شكل من المشكلات، وهذا الاستبصار يترتب عليه تحديد المسافة الآمنة التي تقي الفرد الأضرار المحتملة. المسافة الآمنة يطبقها بعض المديرين الذين لا يجيدون التعامل مع الناس، حتى أن المسافة الآمنة بالنسبة لهم إغلاق الباب كلية أمام المراجعين، وتحويلهم إلى المساعدين، أو تصريفهم من قبل السكرتير، والجهاز الإداري العامل معه.
يطبق مبدأ المسافة الآمنة في العلاقات الدولية، تجنبا لما يمكن أن يترتب على اختراق خطوط معينة من كوارث، وبما يدخل الدول في منطقة قواعد اشتباك قد تكون نتائجها كارثية على الطرفين. لعل آخر مثال على تطبيق مبدأ المسافة الآمنة، ما حدث بعد أمر الرئيس الروسي بوتين جيشه بالمشاركة المباشرة، والمعلنة في الحرب على سورية، والسوريين، بهدف دعم نظام بشار وحمايته من السقوط، إذ سارعت الولايات المتحدة وروسيا إلى عقد محادثات عسكرية، انتهت إلى توقيع الدولتين ما أطلق عليه اتفاق المسافة الآمنة في الأجواء السورية. من حقنا، ومن حق السوريين أن يسألوا بشأن مفهوم المسافة الآمنة، لمن سيكون الأمن؟ وما الآلية التي سيطبق بها هذا المبدأ؟!
البيان الذي صدر بين الدولتين أوضح أن احتمالية التصادم، أو الاشتباك بين الطائرات الروسية والأمريكية، التي تجوب الأجواء السورية بحجة محاربة «داعش» وارد. ولذا، ومن أجل تفادي هذه الاحتمالية لا بد من وضع أسس يتم بها التزام الطرفين تفاديا لأي أضرار مادية، أو بشرية تحدث لهما، ولذا كان لا بد من توقيع اتفاق المسافة الآمنة، وقد تضمن الاتفاق بنودا تضمن تجنب الأخطاء البشرية، والفنية، وتجنب دخول الطرفين في صراع بينهما، ومن هذه الإجراءات التنسيق المسبق بشأن الطلعات الجوية، وكذلك الإبلاغ بشأن إطلاق الصواريخ، في أوقاتها، واتجاهاتها، والمواقع المستهدفة، مدنية كانت، أو مواقع للمعارضة.
السوريون الذين يصطلون بنار الحرب التي يشنها عليهم نظام بشار، ومعه إيران، وحزب الضاحية، وبقية الميليشيات الأخرى منذ ما يزيد على أربع سنوات، وانضمت إليهم روسيا بشكل مباشر، ليسوا مستهدفين في هذا الاتفاق، لأنهم المستهدف الرئيس في الحرب وهم وقودها. السوريون، بل العرب والمسلمون، في نظر الصديقين اللدودين، لا مانع أن يقتل منهم مئات الآلاف، ويشرد الملايين، وتدمر المدن، والبنى التحتية، وتستباح أجواؤهم، وأرضهم، فهذه كلها رخيصة، لكن الخطر أن تسقط طائرة لأحد الطرفين، أو يقتل طيار، أو يتم أسره.
ما هو مؤلم أن يكون مصير الأمم، والشعوب بأيدي دول تتحكم في القرارات الدولية، وتفرض إرادتها بقوة السلاح، والجبروت، وتدعي في الوقت ذاته كذبا حمايتها للقيم الإنسانية، في حين أنها تفعل الموبقات بحق شعب أعزل يبحث عن مكان يتقي فيه الصواريخ، والقنابل، والبراميل المتفجرة، ولا يسلم من بطش، ولا جبروت قوى قدر لها أن تقود العالم في هذا الزمن، السلوك الجبروتي للدولتين مؤسس على فلسفة مادية نفعية شرسة لا ترى إلا مصالحها، ولا اعتبار للآخر في نظرها.