«حكايات متوحشة» .. العنف والانتقام كبطل أوحد
هناك ما يدفع المشاهد للتلذذ وهو يرقب فيلما يحوي شخصيات على حافة الانهيار يتصرفون بأسلوب غرائبي تخريبي. وذاك الهدف من مشاهدة الفيلم الأرجنتيني الإسباني "حكايات متوحشة"، للمخرج السينمائي الأرجنتيني داميان زيفرون لعام 2014، الذي كتب السيناريو البديع للفيلم بأبعاده الجنونية الساخرة. وقد شارك في إنتاج الفيلم الإسباني المخضرم بيدرو المودوبار ليسبغ عليه عالمية وإقبالا جماهيريا دفع بالفيلم لأن يصبح الأكثر مشاهدة في الأرجنتين لعام 2014.
الفيلم يحوي لمسة كوميديا سوداء، وهو أشبه بست قصص قصيرة، كل قصة تتفاوت ما بين العشرين دقيقة إلى ما يتجاوزها بقليل. تتلاحم وتتجانس القصص فيما بينها في ثيمة التوحش والعنف والرغبة بالثأر، وانعدام السيطرة على النفس. الشخصيات مغمورة على أهبة الانهيار في مواجهة للظلم والقلق والضغوطات النفسية.
حرص المخرج زيفرون على الابتعاد عن الشخصنة وعدم تسمية الشخصيات، إلا أن المقطع الأول من الفيلم حوى اسم الشخصية المحورية "باسترناك" وإن كان شخصية غائبة عن الحضور، إذ تتحدث عارضة أزياء إلى ناقد موسيقي يجاورها بالطائرة ليكتشفا مصادفة ارتباطهما بشخصية جابرييل باسترناك وإساءتهما له. لتتعاقب الأحداث الطارئة بكوميديا ساخرة تظهر من خلال المبالغة الجنونية في كل شيء وتضخيم الدراما والأحداث المرتبطة بها، ككمية الدماء المنسابة من جسد محافظ البلدة العنجهي بعد موقف مع نادلة تستذكر مع زميلتها، ذات السوابق الإجرامية، إساءته لأهلها السوابق لتسعة لإقناعها بوضع سم الجرذان في طعامه بنبرة خالية من أي تعاطف مع الآخرين.
تضمن حبكة السيناريو التشويق والرغبة في تتبع الأحداث، إذ يختصر المخرج الأحداث ليصب في عمق المضمون مباشرة منذ البداية بعيدا عن المقدمات، مما يضمن الانشداه والرغبة في تتبع المزيد. وإن كانت هناك بعض القصص البديهية الخالية من عنصر المفاجأة، إلا أن تتبع الأحداث المتعاقبة لا يمل، إذ يمكن أن تصبح كل قصة من القصص الستة فيلما قصيرا منفصلا. وقد اعتلى بطل الفيلم الأرجنتيني الحائز على جائزة الأوسكار "السر في أعينهم" ريكاردو دارين عرش البطولة لنجوميته التي اكتسحت المكان، هو المهندس المختص بإعداد المتفجرات الذي يشعر بصدمة اجتماعية حين يحاسب على مخالفته إيقاف السيارات، لتتفجر الأحداث بعد تقريعه لموظفين حكوميين ووصفهم بالفاشيين لتغوص بعض الحكايات في قضايا البيروقراطية وفساد النظام، ليصبح مهندس إرهابي يمتهن التفجير للانتقام.
#2#
تميز التصوير السينمائي بواقعيته الأقرب للسينما الأوروبية وجودته العالية، مع استخدام ألوان داكنة تعكس النزعة السوداوية وما يتم اكتشافه عند الغوص في عوالم الشخوص وما يترتب على فعالهم وقلقهم النفسي المستمر، وهو ما يدفعهم لأن يكونوا على أهبة إطلاق الشتائم وتقريع الآخرين والرغبة في إيلامهم. التصوير يركز على الحالات النفسية للشخصيات وتقريب الكاميرا للوجوه لتعكس ملامحها القلق النفسي. كما تم استخدام مؤثرات بصرية وتقنيات فنية تعزز من مدى تأثير الأحداث على المشاهد كظهور عاصفة رملية خفيفة عند قدوم شخصية خصم سائق السيارة. ويزيد من الحس الكوميدي في الفيلم افتعال عامل المصادفة بأسلوب تهكمي كتعطل السيارة في أوقات عصيبة تتيح لصاحب السيارة الأخرى الانتقام منه لاستهزائه به بأسلوب يعمق من معاني القضايا الساخرة من الطبقية الاجتماعية.
توفق داميان زيفرون في اختياره للقصة التي اختتم بها الفيلم بحفل زفاف للفيلم بعنوان "حتى الممات"، حين تكتشف العروس خيانة زوجها لتصاب بحالة هستيرية لتقوم بأعمال جنونية كتهشيم الزجاج وإسقاط كعكة الزواج أرضا، وإصابة إحدى الحاضرات بجروح جسدية. في محاولة للانتقام والخيانة الفورية والتهديد. هناك إبهار بالحرفية الانتقالية والتدرج من حالة السعادة العميقة في بداية المقطع والعشق الواضح بين الزوجين وانهيار ذلك ليستحيل إلى مقت ورغبة في التجريح.
الفيلم يكشف عن ضعف النفس البشرية، وحالة الانهيار إثر الخيبات الحياتية في ظل البحث عن العدالة أمام نظام يفتقر إلى ذلك، ليحاول الضعيف الحصول على تلك العدالة باستماتة بيديه، كملاحقة ثائرة بين سيارتين، بعد تعرض سائق بورجوازي لسيارة ثمينة لتهجم صاحب سيارة أخرى متهالكة بعد أن شتمه بعنجهية استعلائية وإثر معاملته بدونية. ما يلفت الانتباه هو التطرف والمبالغة في كل شيء، التي تصاحبها الفوضى حتى الانهيار. ويظهر هنا تأثير طراز المودوبار الباحث عن حالات الهستيريا والانهيار النفسي مع فروقات المجتمع الأرجنتيني عن نظيره الإسباني، ليظهر في فيلم "حكايات متوحشة" ما هو أشبه بحالات متأثرة بالفوضوية أو "الأناركية" العدمية المعادية للسلطة وإن كانت في بعض الحالات كمحاولة انتقام فردي لشخص تسبب بالتأثير سلبا فيهم، أو يتطور الأمر ليصبح حالة انتقام من نظام كلي.