ثقافة وفنون

«تأثير الفراشة» .. عن الصدفة وممكنات مسار تاريخ آخر

«تأثير الفراشة» .. عن الصدفة وممكنات مسار تاريخ آخر

«تأثير الفراشة» .. عن الصدفة وممكنات مسار تاريخ آخر

للكلمات تاريخ، وهي إلى حد ما تصنع التاريخ كما يقال، وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لكل الألفاظ فهو قابل للإثبات بصفة خاصة في كلمة الصدفة أو النرد أو الحظ بتعبير القدامى أحد الموضوعات اللامفكر فيها كثيرا، فهي لم تحظ باهتمام بحثي غربي ولا عربي، خشية اتهام أصحابها باللاعقلانية والخرافة والأسطرة .. وهلم جرا من النعوت التي لم تمنع رائد الوجودية العربية الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي من أن يستهل الجزء الأول من سيرته الذاتية الماتعة – سيرة حياتي - بالحديث عنها، حيث قال: "كل شيء بالصدفة ...". أسباب صغيرة يعد الفيلسوف وعالم الرياضيات أنطوان أوجوستان كورنو (Cournot Antoine Augustin) من أعلام القرن ما قبل الماضي الذين فكروا في موضوع الصدفة، وواحد من القلائل الذين قدموا تعريفا لها بقوله: "الصدفة هي الالتقاء المتزامن لواقعتين لا يوجد بينهما رابط، وإن كان لكل منهما سببه". ويستمر الرجل في شرحه مقدما مثالا عن ذلك حين كان سائرا وسقطت عليه قرميدة، فواقعة مروره من ذلك الطريق بعينه، وواقعة سقوط قطعة من البناء، لا رابط بينهما أبدا. فالصدفة إذن وباختصار هي التقاء سلسلتين سببيتين مستقلتين عن بعضهما البعض. تاريخيا، بدأ التفكير باحتشام في الموضوع أواخر القرن السابع عشر تحت مسمى "الأسباب الصغيرة ذات النتائج الكبيرة"، وهو ما كان غوتفريد ڤيلهلم ليبنتز (Leibniz) يقول عنه "غالبا ما تولد الأشياء العظيمة من الأسباب الصغيرة"، ويقدم مثال القذيفة التي أصابت قائد القوات الفرنسية صدفة، وأردته قتيلا في وقت حاسم من المعركة كان فيه على وشك نصر محقق. إنه حدث بسيط لكنه غيَّر وجه حرب بأكملها (حرب فرنسا ضد هولندا)، ومع ذلك فإن تغيير اتجاه القذيفة ومسارها ارتبط بأشياء تافهة. #2# يقدم تاريخ الحروب أمثلة مفيدة لفهم دور الصدفة في التاريخ، وهو بذلك مفيد جدا لموضوعنا، ففيها يظهر الحضور القوي للصدفة أكثر مما يحضر في الحياة المدنية. وهو ما يؤكده أحدهم بقوله: "لا يوجد نشاط إنساني يرتبط أكثر وبشكل أساس وعلى نحو كامل وكوني بالصدفة كالحرب". قول زكاه أحد رجال الحرب وهو في ساحة الوغى؛ يتعلق الأمر بالجنرال كارل فون كلوزويتنر، في حرب 1832 بتأكيده أن "الصدفة والشك اثنان من أهم وأكثر عناصر الحرب شيوعا". الرجل عينه يشير في السياق ذاته إلى إيمانه بدور الصدفة في صناعة أحداث التاريخ، ويعلق على الخطط الحربية ودور الصدفة في نتائجه بقولة بليغة مفادها: "إن نجحت الخطة فهي جريئة، وإن فشلت فهي متهورة". مجرى التاريخ عودا إلى التاريخ الحديث، وتحديدا يوميات الحرب العالمية الثانية لنتذكر مقولة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل (Winston Churchill) "نادرا ما كان قلة من الرجال مسؤولين عن مآل حرب كهذه"، ابتهاجا منه بنتائج الحرب ضد الألمان بسبب ضباب كثيف غلف أجواء العاصمة البريطانية لندن ما منع الطائرات الألمانية من الرؤية الجيدة، وأسهمت في تغيير استراتيجية الحرب كلية، وانقلاب موازين القوى لمصلحته. مجريات ووقائع لم يتوان إريك دورتشميد (Erik Durschmied) عن تتبع تفاصيلها الصغيرة بدقة في كتاب كبير، يستعرض فيه جملة من الصدف (الأخطاء والأحداث) التي صاغت العالم كما نعرفه الآن لا كما خطط له أجدادنا، وسمه بعنوان "دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ" (The hinge Factor: how chance and stupidity have changed history). قد يقول قائل ما بال منطق الصدفة لا يغادر ميدان الحرب إلى غيره من مناحي الحياة، وهنا نشير إلى صنف آخر من الأحداث المتصلة بالصدفة؛ إنها محاولات الاغتيال، وما أكثرها في التاريخ بل كانت سببا وراء أحداث عالمية كبرى؛ اغتيال ولي عهد النمسا فرانس فرديناند (François Ferdinand) مثلا، وإشعال فتيل الحرب العالمية الأولى (1914_1918). هي ذاتها الصدفة التي أنقدت الجنرال الفرنسي شارل ديجول (Charles de Gaulle) من موت محقق. وهو ما أثبته في مذكراته حين قال لمرافقه: "لقد حمتنا الرعاية الإلهية". تذكرنا هذه الكلمة بقولة للكاتب نيكولا شامفور (Nicolas Chamfort)، أواسط القرن 18 حين نقل عن أحدهم تعبيرا بليغا عن الصدفة متنه "يقول أحدهم إن العناية الإلهية هي الاسم المستعار للعناية الإلهية". صدفة "أمريكا" بعيدا عن الحروب والاغتيالات وألاعيب السياسة القذرة أحيانا، نشير إلى عالم آخر كانت للصدفة فيه بالغ الأثر، إنه مجال الاكتشافات الجغرافية؛ فالصدفة من قادت كريستوف كولومبوس (Christophe Colomb) إلى اكتشاف أمريكا الشمالية - العالم الجديد – في وقت كان مقصد رحلته بلاد الهند. وقس على ذلك تاريخ العلوم والابتكارات العلمية حيث يسود الانطباع بأن تقدم العلوم يسير وفق حتمية حسابية مضبوطة ودقيقة، بيد أن واقع الحال ليس كذلك دائما، إذ تخرج الأمور عن مجال ضبط الإرادة البشرية للعلماء، لتقوم الصدفة بدورها في مجال "العلم"؛ ونشير هنا إلى أن اكتشاف الأشعة السينية من طرف فيلهلم كونراد رونتجن (Wilhelm Röntgen)، وكذا اكتشاف هنري بيكريل (Henri Becquerel) للنشاط الإشعاعي النووي الطبيعي. فقد ترك هذا الأخير صدفة بعض شرائح ملح الأورانيوم في صندوق مغلق نسيه لعدة أشهر، وعندما فتحه تبين له أن النشاط الإشعاعي لليورانيوم يستمر حتى في حالة غياب الأشعة الشمسية. وهو الاكتشاف الذي كانت له النتائج التي تعرفونها قطعا. في الوجه الآخر للموضوع، عمد بعض الباحثين إلى تخيل مسار آخر لبعض الأحداث التاريخية التي كانت الصدفة وراءها اعتمادا على تمرين أسماه المؤرخ الفرنسي جان نويل جيانيني، (Jean Noel jeanneney ) في محاضرة له عن "الصدفة في التاريخ" قبل عقد من الزمن بالعاصمة المغربية الرباط (دجنبر 2004)، أسماه بتمرين (Uchronie) أي "خارج الزمان"، وهي مفهوم نحته الفيلسوف الفرنسي شارل رونوفيي (Charles Renouvier) ليدل به على أحداث لم تحدث فعليا، ولكن يمكن تصور حدوثها منطقيا. إنه تمرين فكري بسيط نوعا ما، يقوم على تغيير أو حذف حدث ما وقع فعلا، وتصور ما كان بالإمكان أن يحدث تبعا لذلك. تمرين بإمكان أي قارئ أن يقوم به مع نفسه، فيفكر كيف سيكون مسار التاريخ وما هو حال واقعنا مثلا لو لم يقع الخلاف بين السنة والشيعة في تلك الحادثة المعلومة، وماذا لو اتحد ملوك الطوائف بالأندلس في عز الحملات الصليبية عليهم، وماذا لو نجحت المحاولة في 20 تموز (يوليو) 1944، وقتل هتلر من الأكيد أن مآل الحرب العالمية الثانية سيكون مختلفا تماما... ثم ماذا لو في سلسلة من الأسئلة التي قد تفضي بك أيها القارئ إلى عالم نختلف كليا عن عالمنا اليوم. وأخيرا نجد أنفسنا مضطرين لإثبات قولة ستيفان مالارمي (Stéphane Mallarmé) الذي طالما كرر بأن: "رمية نرد لن تلغي أبدا الصدفة"، وبالفعل لا يمكن لنا إلغاء الصدفة. فهل ينبغي لنا والحالة هذه أن نشتكي وضعنا؟ لا أعتقد ذلك، فنحن نعرف أيضا لذة المفاجآت، ولذة الالتقاء باللامنتظر. وهو ما عبَّر عنه العرب قديما في قول مأثور "رب صدفة خير من ألف ميعاد".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون