نساء فوق 80 عاما يكسبن عيشهن من الغوص في البحر

نساء فوق 80 عاما يكسبن عيشهن من الغوص في البحر
نساء فوق 80 عاما يكسبن عيشهن من الغوص في البحر
نساء فوق 80 عاما يكسبن عيشهن من الغوص في البحر

كل واحدة من النساء المُسنّات صرخت صرخة مميّزة عندما ظهرن حولي من بحر الصين الشرقي قارس البرودة، وهن يُمسكن بحفنة من الأعشاب البحرية. من يساري يأتي صوت يُشبه ثغاء الماعز، ومن الأمام أنين كأنين من يتحدى حملا ثقيلا. جميعهن أطلقن صفيرا بعد الخروج من الماء، وهو أسلوب قديم لطرد ثاني أكسيد الكربون من الرئتين. في بعض الأحيان، الجدّات اللواتي يرتدين ملابس الغطس يتبادلن بعض الكلمات بعد وضع الأعشاب البحرية التي حصدنها في أكياس مربوطة بعوامات برتقالية اللون بجانبها. لكن لم تحصل أيّ منهن على استراحة تزيد على دقيقة قبل الغطس إلى قاع البحر مرة أخرى - إيقاع يُحافظن عليه على مدى خمس ساعات.

هؤلاء هن نساء البحر haenyeo في جزيرة جيجو في كوريا الجنوبية، اللواتي يغطسن بحثاً عن الأعشاب البحرية والمحار منذ القرن الثامن عشر على الأقل. عملهن هذا واحد من التقاليد الأكثر شهرة في البلاد، لكن تقليد سكان الجزيرة سيُصبح شيئا من الماضي في وقت ليس ببعيد.

تقليدياً يتم تسليم الوظيفة من الأم إلى الابنة. لكن في العقود الأخيرة حياة نساء البحر أصبحت منبوذة تقريباً من قِبل جميع الفتيات اللواتي ولدن في القرية الساحلية في جزيرة جيجو، اللواتي يملن إلى تفضيل حياة أكثر راحة في واحدة من مدينتين توجدان في الجزيرة، أو في البر الرئيسي. ومن أكثر من 14 ألفا هن نساء البحر في السبعينيات، تضاءل العدد إلى أقل من 4500 اليوم.

والغالبية العُظمى من هؤلاء تزيد أعمارهن على 50 عاماً، وأكبرهن سنا في التسعينيات من العمر. لكن، على الرغم من عمرهن، إلا أنهنّ لا يزلن يمارسن أعمالا بطولية تتجاوز قدرة معظم النساء اللواتي في العشرينيات من العمر- الغطس إلى أعماق تصل إلى 20 مترا، من خلال حبس أنفاسهن لمدة تصل إلى دقيقتين في كل مرة.
تقول كيم هونج تشول، التي تُدير جميعة غوص في قرية جونجدالري: “هؤلاء النسوة يُمكن أن يكُنّ آخر نساء البحر. نساء البحر اللواتي تراهنّ اليوم هنّ بدون تعليم، ولا يملكنّ أي خيار سوى ممارسة هذا العمل. الآن الشابات يُردن ممارسة أعمال مختلفة. إنها مشكلة حقيقية بالنسبة لمجتمعنا”.

مع النساء في البحر
الواجهة البحرية التي توجد فيها نساء البحر مهجورة إلا من أزواجهنّ المُسنين الذين يتولون ترتيب ما صادته زوجاتهم من الأعشاب البحرية في اليوم السابق.
خلفنا، سيدة كبيرة في السن تقود شاحنة صغيرة محمّلة بالأعشاب البحرية مبتعدة بها عن المكان. تقول كيم: “كوون يونجاي عائدة”. وتضيف: “اليوم أنهت الغطس في وقت أبكر من الأخريات بسبب عمرها - تبلغ من العمر 85 عاماً. شقيقتها الأكبر منها لا تزال تغطس أيضاً”.
بعد نصف ساعة يظهر قارب صيد يحمل 22 امرأة مع أكثر من طن من الأعشاب البحرية. عندما استقبلهن الرجال وتعاملوا مع الصيد، نزلت النساء من القارب، معظمهن يمشي بسرعة بعيداً عن رجالهن إلى غرفة قريبة لتغيير الملابس.

بعد مضي نصف ساعة، ظهر لنا قارب صيد آخر يحمل 24 امرأة مع أكثر من طن من الأعشاب البحرية. بينما كان الأزواج يحيوهن ويأخذون الصيد منهن، نزلن من القارب، ومعظمهن يتجه نحوغرفة الملابس.
#2#
ربما يكون أمرا لافتا أن تظهر في أي مكان في العالم مجموعة من النساء المسنات صائدات الأسماك اللاتي يمارسن الغطس الحر، لكن في كوريا الجنوبية الأمر يصبح لافتا أكثر لأن عددا أقل من النساء يعملن مقارنة بأي اقتصاد متقدم آخر، ولأن الفقر المدقع بين كبار السن أصبح أزمة وطنية.

يقول كانج كوونج - يونج، مدير متحف هانيو القريب: “عادة في كوريا الجنوبية، يتولى الرجال مسؤولية النساء، لكن ليس في جزيرة جيجو”. ويضيف: “هؤلاء النساء لديهن أعمالهن، ويكسبن المال، إنهن من يقمن بحل مشاكل العائلة. معظم الكوريين لا يزالون من ذوي العقلية القديمة، لكن هؤلاء السيدات كبار السن هن اللواتي يعشن في القرن الـ21”.
في الصباح التالي، وجدت نحو 30 من نساء البحر يسترحن في ظل شجرة صغيرة على جانب الطريق بالقرب من جونجدالري، يسخرن من بعضهن بعضا. وسط ذلك المزاح، تبدي يو أوك - يون، البالغة من العمر 62 عاما، ملاحظة أكثر قتامة حين تتحدث عن مخاطر تعريض أجسادهن، وهن في هذا الممر المتقدم، لمثل هذه العملية المضنية التي تصاحبها تغييرات في الضغط تحت الماء. وتقول: “لا نعرف أبدا ما إذا كنا سنموت أم لا. مات كثيرون بسبب الأزمات القلبية. وكانت آخر وفاة لدينا قبل بضع سنوات. لم تكن تدرك أن الأكسجين في دمها كان في تناقص”. إن مخاوفها لها ما يبررها – قضت تسع من نساء البحر في المياه على مدى السنوات الأربع الماضية.
#3#
وبعد حديث قصير مع كيم، أكملت نساء البحر طريقهن نحو الماء وهن يمشين بسهولة عبر الصخور البركانية الحادة قبل الانقسام إلى مجموعتين. مشيت بينهن بينما كن يتابعن على ما يبدو دورة لا تنتهي، يسبحن بين كيس الأعشاب البحرية وقاع البحر. بعد خمس ساعات خرجن من البحر تحت أكياس ممتلئة بالأعشاب البحرية التي لا تزال مشبعة، بحيث يزن الكيس الواحد ما يقارب 30 كيلو غراما. أو بيونج - سون، وهي جدة لديها ستة أحفاد، واحدة من بين آخر النساء اللواتي خرجن من البحر - في عمر الـ 77 ومع ذلك لا تزال من أكثر العاملين جدا واجتهادا في القرية بعد أكثر من نصف قرن أمضته في العمل الذي بدأته وهي في سن العشرين.
تقول: “لو لم أكن في وظيفة الغوص هذه، لكنت أزرع البطاطا. كنت أغوص وأنا في فترة الحمل، حتى الشهر التاسع”. لقد كان هذا ممارسة طبيعية، وفقا لمؤرخي جزيرة جيجو، الذين يسجلون حالات لنساء البحرن يلدن على متن القارب خلال عملهن في الغوص، وحتى أنهن يربطن أطفالهن الصغار إلى الصاري بينما كن يعملن.

وتشير السجلات التاريخية إلى أن الغوص كان في الماضي وظيفة لرجال جزيرة جيجو لكن هذا تغير في القرن الثامن عشر، عندما جند ملك كوريا أعدادا ضخمة من الرجال في جيشه في حين كان لا يزال يفرض على الناس أن يُرسَل إليه صيد “أُذن البحر” كنوع من الجزية. وخوفا من الاتهامات، لم يكن لدى نساء جيجو أي خيار سوى اتخاذ البحر مهنة لهن.

وأصبحت نساء البحر رمزا لثقافة مميزة يفتخر بها سكان الجزر بشدة- واعترف بها أهالي البر الرئيسي الذين يشكون عادة من أن لهجة جيجو بالغة القوة ويقولون إنها لغة أخرى. ووصلت العلاقة المعقدة بين الفئتين إلى مستوى متدن مروع بين عامي 1948 و1954، حين أدى رد فعل عنيف من جانب سيئول على حركة تمرد يسارية في جيجو إلى قتل نحو عُشر سكان الجزيرة.

وتستذكر آن يونج - سيون (80 عاما) وهي تصلح كيس الأعشاب البحرية خاصتها: “لقد كان وقتا صعبا حقا”. تعرض زوجها لإعاقة أثناء أعمال العنف، وبالتالي كان عليها تقديم الدعم للعائلة طوال حياتها. الآن اكتمل عملها وتوجهت إلى دراجة نارية تحركت بها ببطء.
لاحقا، ذهبت إلى البحر المجاور، حيث كانت نساء البحر الأخريات في العمل. واحدة منهن كانت تتطلع إلي وهي تضحك ضحكة خفيفة، تلوح بحفنة من الأعشاب البحرية. سألتها عن اسمها. ردت بابتسامة شامتة: “دانو، أنا في الثالثة والثمانين”.

على مر القرون، ظهرت تقاليد فريدة من نوعها بين نساء الغوص، بما فيها الأغنيات التي تعيش وكأنها وصايا مؤرقة تشير إلى مشاق العمل. واحدة من الأغاني تقول: “بينما أدخل البحر، تأتي الآخرة وتذهب (...) أتناول الرياح بدلا من الأرز وأتخذ من الأمواج بيتا لي”.

ولا يزال على قيد الحياة أيضا ذلك الشكل الفريد من احتفال ما يعرف بالشامانية الكورية. ففي شهر شباط (فبراير) من كل عام، تقيم نساء البحر في جزيرة جيجو احتفالا بمناسبة انتهاء موسم الرياح. لكن بطريقة أخرى، تغيرت حياة هؤلاء النسوة مع مرور الزمن، حسبما سمعتُ من بارك بونج - سوك، التي قابلتها قرب منتجع فاخر على الساحل الشرقي لجيجو. وبينما كنا نتحدث، كان عدد من المشاركين في مؤتمر دولي يتجولون لالتقاط صور تذكارية في منارة متاخمة، وبالكاد كانوا يلقون نظرة عابرة على بارك وأربع أخريات يجففن الأعشاب البحرية في الشمس.

بارك، التي ولدت في عام 1945، بدأت العمل واحدة من نساء البحر في عمر 15 عاما وأمضت بضع سنوات تغوص في المناطق الجنوبية للبر الرئيسي قبل العودة في سن 23 عاما لكي تتزوج. تقول ضاحكة: “لقد كان من اللطيف لو تزوجْتُ برجل من البر الرئيسي. إن رجال جزيرة جيجو يتركون نساءهم يتولين جميع الأعمال”.

وتقول إن التغيير الأكبر جاء في السبعينيات، عندما بدأت الحكومة في تقديم الدعم للنساء متمثلا في ملابس الغوص، بدلا من الملابس القطنية الفضفاضة التي كن يستخدمنها في السابق، حتى في الشتاء. وتضيف: “كان الأمر صعبا حقا، وباردا جدا”، بحيث غاب فجأة ابتهاجها وهي تستذكر المعاناة. “لقد كنا نفعل ذلك، لأننا كنا صغار السن. لكن كان من الصعب العمل لأكثر من ساعة أو ساعتين في كل مرة”.

لقد كانت ملابس الغوص تشكل تقدما واضحا مكن نساء البحر من تعزيز مكاسبهن بقضائهن فترة أطول في الماء، ومواصلة الغوص مع تقدم السن، بحسب ما يقول كانج، من متحف هانيو. وأكثر نساء البحر إنتاجية كانت تكسب ما يقارب 30 مليون وون (25 ألف دولار) في العام، بحسب كانج، لكن تقديرات الحكومة المحلية تشير إلى أن معظمهن يكسبن أقل من نصف ذلك. وتعمل النساء عادة بشكل متقطع في الربيع والشتاء - يلتزمن بحظر موسمي للحفاظ على الثروة السمكية - ويزدن من دخلهن بالحصول على وظيفة ثانية، مثل الزراعة.

ويعتبر استقلالهن المالي أمرا رائعا في دولة يشكل فيها فقر كبار السن مشكلة ضخمة. ويعيش 49 في المائة من سكان كوريا الجنوبية ممن هم فوق سن 65 عاما بأقل من نصف متوسط الدخل - النسبة الأعلى في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وأسهم هذا في زيادة تقارب خمسة أضعاف معدلات انتحار كبار السن منذ عام 1990 ليصل إلى مستوى أعلى بكثير من أي دولة متقدمة.

مثل مشاعر الفقر واليأس هذه لا تشعر بها كوه تسون - سان، التي كانت تقف مستندة إلى كرسي طفل صغير معبأ بمعدات الغوص، في الوقت الذي تراقب فيه بناتها الثلاث وهن يخرجن من البحر في جزيرة صغيرة في بيانغ. في سن 86 عاما، تعيش كوه عامها الـ70 واحدة من نساء البحر، رغم أنها خفضت عدد مرات غوصها إلى ما لا يزيد على عشر مرات في الشهر، واليوم تغادر العمل وتتركه لبناتها، اللواتي تراوح أعمارهن بين 25 و60 عاما.

في بلدتهن الأصلية، تزن الأخوات صيدهن، وتقرأ الأخت الكبرى الوزن لكل كيس بلهجة مسرورة. في الأكياس كلها، جمعن 110 كيلو غرامات من الأعشاب البحرية في ساعتين، وسيبيعنها مقابل نحو ألف وون (دولار واحد) لكل كيلوغرام. تقول كوه: “سأمارس هذا العمل حتى وفاتي”. لكنها متشائمة بشأن المستقبل: “ليس لدينا نساء شابات يتعلمن هذا العمل. في غضون 30 عاما تقريبا، سوف تزول ثقافتنا”.

مع ذلك، مثلما مكن الطابع المرن للعمل كوه على دعم وإعالة نفسها حتى وصلت العقد التاسع، قد يكون هذا أيضا هو السر في جذب جيل جديد.
في قريتها الواقعة على الساحل الجنوبي لجزيرة جيجو، قابلت تشاي جي - إي، البالغة من العمر 33 عاما، واحدة من نساء البحر القليلات من جيلها. قررت تشاي في البداية الابتعاد عن هذا العمل، والذهاب إلى سيئول، حيث عملت على مدى عشر سنوات في مهنة تصفيف الشعر. لكنها مثل كثير من نساء كوريا الجنوبية، كانت تعاني في سبيل موازنة ساعات عملها مع متطلبات الأمومة. ولأنها نشأت وهي تشاهد أمها وجدتها تعملان في قاع المحيط، قررت العودة إلى موطنها ومواصلة تجارة الأسرة، رغم أن ذلك كان يعني الابتعاد عن زوجها الذي لا يزال يعمل في البر الرئيسي. تقول: “الآن، بإمكاني الحصول على وقت فراغ أمضيه مع أطفالي، والعمل أثناء سماع صوت الأمواج، والاستمتاع بالنسيم العليل. ربما لا يكون هناك الكثير منا في المستقبل، لكنني لا أعتقد أننا سنختفي تماما”.

الأكثر قراءة