«شوق الدرويش» .. الإيمان واليأس بالأبيض والأسود
"يا مهدي الله!" أنا أتحول إلى رجل أبيض." ذلك القلق والتأزم لهوية لم يختر الانتماء إليها، هو هاجس بخيت منديل، الشخصية المحورية في رواية "شوق الدرويش"، للروائي والكاتب السوداني حمور زيادة عن دار العين لعام 2014. الرواية بمنزلة إعلان للتمرد على الواقع المعاش بلونيه المتباينين الأسود فالأبيض، ما يتسبب بإمعان في ملاحظة الفروقات بين الأعراق والأديان المختلفة فيتسبب في عنف مقيت.
فازت "شوق الدرويش" بجائزة نجيب محفوظ لعام 2014، كما رشحت لجائزة البوكر العربية، مع احتفاء هالة من النقاد والقراء العرب.
تحكي الرواية ذلك الهم وحالة الانهيار وسقوط السودان إبان الثورة المهدية في القرن التاسع عشر، وهي حركة دينية تأسست على يد محمد أحمد المهدي، يصف حمور زيادة بين ثنايا الكتاب تطرفها وبطشها، كالانتهاكات التي قام بها الطاهر جبريل، أحد مقاتلي قوات الملازمين التابعة لعثمان شيخ الدين ابن خليفة مهدي الله، وتداعيات سقوطها ودخول الجيش المصري فيما بعد.
وعلى الرغم من القراءة المرعبة لحمور للحالة السياسية للسودان في تلك الحقبة، بسبب الالتفاف حول من يصف نفسه مبعوثا من الله لحرب الكفار، يسرد في الآن ذاته حالة الانتشاء والتوحد مع الله التي تنتاب الدراويش المنضمين للحركة المهدية "يرتدون جميعهم جلابيب مهدوية مرقعة"، وقناعتهم المفرطة بتطهرهم وقدرتهم على إعمال الحق والقضاء على كل من يخالفهم: "لكن كيف يقبل الدرويش ترك حلقة الذكر؟ إنه فيها يتوحد مع الله، يذوب في المطلق فيكون وجوده حقيقة. يرتفع من عالم الأشباح والصور إلى مدارج الجوهر الفرد."
يستند حمور زيادة في روايته إلى أدلة ووثائق لمرجعيات دينية وتاريخية مختلفة، كما يستشهد بآيات قرآنية وعبارات من الإنجيل ومن وثائق أخرى، بثراء لغوي يمد الرواية بحالة هذيان شعرية بديعة تنم عن قدرة إبداعية حقيقية تحيل أحداث تاريخية إلى قصة عشق تصيب بخيت منديل، الذي لم تمنعه حالة العبودية المستفحلة في حياته عن التدله بثيودورا اليونانية المصرية القادمة في رحلة تبشيرية من السويس إلى الخرطوم، وإن كانت مشاعره تتعرض لتوحش واستنكار دائم من مجتمعه ومحبوبته التي تقاوم هي ذاتها بكل استماتة السقوط في هاوية حبه.
"كانت المدينة محاصرة تماما بالآلاف من المتمردين الدراويش ومعزولة كليا عن العالم." يلعب المكان في "شوق الدرويش" دورا أساسيا يغدو بمنزلة حالة استقراء للوضع السياسي للبلاد في حقبة الدراويش، والتداعيات النفسية للشخوص سواء كانوا مواطنين مضطهدين أم مستشرقين مستنكرين لطبائع الشعب. فحتى وصف الحالة الطقسية يعكس طبائع أهلها.
"رائق جو المدينة كبحر النيل في الصيف. لكنه يتعكر دونما إنذار." أو كذلك الوصف الغرائبي:" الشمس ساطعة في المدينة الأسطورية، رغم السحب الثقيلة، لكن ثيودورا تحس الظلام يشع من سواد البشر." يقابل ذلك افتراء ونظرة دونية حيال اللون الأسود يجعلك الإسهاب فيه تكاد تشكك في جنسية الروائي وتخاله يعتنق التمايز والكراهية. إذ تتناثر في الرواية عبارات مقت لأصحاب البشرة السمراء "تكره كل ذرة تراب في هذه المدينة القبيحة. تكره الوجوه السوداء التي تغطيها الندوب واللحى."
#2#
"اشتقت للعالم المتمدن. مللت هذا السواد والدماء." يظل الجسد بفروقاته الثيمة الأساسية للرواية. فثيودورا تواجه بسبب بياضها الناصع مقت البعض في السودان لها لاختلافها ومحاولة شيطنتها لمخالفتها دين الإسلام. فـ "بنت النصارى شيطان" و"لو فتحنا قبرها لوجدناه فارغا." بل يصف التقليديون القادم إلى بلادهم من مسيحيين "بياضهم القبيح. حرمهم الله جمال اللون ومنحهم طيبة القلب." إلا أن عقدة الرجل الأبيض والافتتان بها قادرة على أن تطغى على اللون الأسود الأغلب، إذ تظهر ثيودورا كأنها شهرزاد تسافر من بغداد الليالي العربية.
وتجد نفسها شخصا مرهفا يواجه صدمة حضارية بسبب بطش السودانيين. إذ تبكي. "هذه بلاد شريرة. إنهم يقتلون الغزلان." وبعد فترة من التوطد مع المكان وبعد أن " تمجد الرب أن خلقها بيضاء. تشفق على من شوههم بالسواد." "تفكر بأن رائحتهم ليست سيئة، لكنها غريبة." " ثيودورا أحبت الوقوف، في الطابق الثاني، خلف النوافذ الخشبية المنحوتة تراقب المارة السود كخنافس نشطة يجوبون الشوارع." بل ترقب حالة تهالك الآخرين كتلك التي مضغتها أسنان الزمن فتركتها كتلة سوداء متغضنة. وتستمر ثيودورا في الاستماع لتوصيات المسيحيين لها ذات النظرة الاستعلائية بأن: "طبعهم الغدر.
متوحشون، لكنهم كحيوانات المزرعة. فكوني أنت الراعي لخراف الرب. إن لم يكن في تلك البلاد المخيفة." وقلق وجودي وتساؤل عبثي: "لماذا كتب الرب على الإنسان الغربة؟" فيما يفتتن مستشرقون آخرون بثقافة الآخر إلى حد احتضانها. كوصف أحد المستشرقين في الرواية حالته النفسية: "بعد تسعة عشر عاما هنا أصبحت بربريا تماما. حتى لوني أوشك أن يتحول إلى اللون الأسود."
"تطارده أشباحه." ويعد بخيت جسده جزءا من هواجسه ومسببا لآلامه. فالجسد هو رمز للانتهاك والألم والفناء. فقد تعرض لتجارة الرقيق، وللسجن والضرب والجلد. "قاومهم فجلدوه." ما دفعه للانتقال من مرحلة مقاومة ورفض للوضع الذي يتعرض له. " مرة أخرى هو عبد. كلما خرج إلى حرية ألفى نفسه عبدا من جديد. يسلم نفسه لقدره." إلى مرحلة استسلام. "إن ظهره مليء بآثار سياط أسياده." بل يصل إلى مرحلة إقبال على الألم "أيها الجلادون أنا آت." واعتياد عليه "أما أنا فقد اعتاد جسدي هذا السعير."
تحمل رواية "شوق الدرويش" الحالة ونقيضها في كل شيء. فما بين الأبيض والأسود، الإيمان واليأس، إلى حالة التباين بين التدله والاشمئزاز في العلاقة ما بين بخيت وثيودورا التي استحال اسمها إلى حواء وأجبرت تحت ظروف الدولة المهدية لاعتناق ما لا تؤمن به، لتستحيل من حالة إيمان بالسودان إلى كره لها، ومن اقتراب من بخيت ورغبة في اكتشافه إلى تقزز منه ومن لونه الداكن. "هذه البلاد حلم جميل. حلم جميل خامل." تترجم هي حالتها العشقية من خلال أحداث محيطها.
ففي الحين الذي يقترب منها بخيت ليصفها: "أنت حلوة جدا" تجيب بصد منيع: "أنت أخي الأسود." يصفها بانبهار: "أنت بيضاء كالنهار." ويسألها بافتتان بالآخر: "من أي بلاد يسكنها ملائكة أنت؟" ويتخيلها تمشي في الخلاء تحت القمر تفتن المسافرين.
يطلب منها طمأنته: "قولي لي إن السعادة ممكنة يا حواء." في الحين الذي ترفض حواء ذلك وتحذره بقولها: " لن أبشرك. ستحمل الهم ما دمت حيا. ستحمل الهم ما دمت تحبني. أنا أدرى بنفسي منك وربما القادم أسوأ." هي التي تحتفظ في دفترها بعبارات تحث فيها نفسها: " لا تحب بعنف. لأنك ستتألم بعنف. لا تحب. كي تخرج سالما لا لك ولا عليك." فيما يرى بخيت "قلبه متوضئ بحبها. طاهر بشوقه. وإلا ما نطقه." كما اعترف في مستهل الرواية:" لست خائفا من الموت. أنا خائف ألا أراك مرة أخرى .. النار والدخان في كل مكان. النار والدخان في قلبه." وعلى الرغم من كون بخيت "يوما بعد يوم يتسرب داخلها. كظل يعبر." فإن حواء تعترف "لا تريد أطفالا سودا يؤمنون بدرويش ميت يحلمون بغزو العالم. هي لا تنتمي إلى هنا. ليست هذه مدينتها ولا عالمها."