الوحدة 8200 .. مصنع إسرائيل لإنتاج الجواسيس وقراصنة الإنترنت

الوحدة 8200 .. مصنع إسرائيل لإنتاج الجواسيس وقراصنة الإنترنت

بعد ظهر يوم حار إلى حد مزعج في مدينة العلوم الجديدة التي تشبه الحرم الجامعي في بئر السبع، جنوبي إسرائيل، شاهدت مجموعة مشرقة من المراهقين الهواة للتكنولوجيا وهم يعرضون مشاريع تخرجهم. الآباء والأمهات وأفراد الجيش الذين يرتدون الزي العسكري تجمهروا حول غرفة بلا نوافذ، معبأة بطاولات عليها أجهزة كمبيوتر محمولة، وهواتف وغيرها من الأدوات. كانت هناك أحاديث متحمسة ورائحة نفاذة لعرق المراهقين.
كان هذا حفل تخرج حدث أخيرا لبرنامج ماجشيميم (الذي يترجم تقريبا إلى كلمة "وفاء")، وهو برنامج مدته ثلاث سنوات بعد المدرسة للطلاب من عمر 16 حتى 18 عاما من الذين لمعوا بصورة استثنائية في برمجة الكمبيوتر ومهارات القرصنة. يقدم ماجشيميم ما يشكل نظام تغذية يوفر المجندين المحتملين لـ "الوحدة 8200"، وكالة التجسس ذات التكنولوجيا العالية والسمعة الأسطورية في الجيش الإسرائيلي. الوحدة 8200، أو "شمونة ماتايم" كما يطلق عليها باللغة العبرية، هي ما يعادل وكالة الأمن القومي الأمريكية، وأكبر وحدة عسكرية في الجيش الإسرائيلي.
وهي مؤسسة النخبة بحيث يمكن لخريجيها، بعد ترك الخدمة، استثمار مهارات التطفل والقرصنة المتطورة والحديثة لديهم في وظائف في إسرائيل، أو وادي السليكون، أو ممر التكنولوجيا الفائقة في بوسطن. مؤلفا كتاب "أمة الشركات الناشئة"، الكتاب المهم الذي ظهر في عام 2009 عن ثقافة الشركات الناشئة في إسرائيل، وصفا الوحدة 8200 ووحدات النخبة الأخرى في الجيش الإسرائيلي بأنها "المؤسسة الإسرائيلية التي تعادل جامعات هارفارد، وبرنستون، وييل".
مع وجود حارسة تابعة للجيش الإسرائيلي إلى جانبي، استمعت للمراهقين وهم يتحدثون عن مشاريعهم. أكثر من نصفهم كان من الأولاد ولكن كانت هناك فتيات أيضا، والوحدة 8200 مفتوحة لكليهما على حد سواء. عومر (19 عاما) صمم مفتاح "يو إس بي" يمكنه أن يشفط المعلومات من أي كمبيوتر وينظمها على كمبيوتر آخر: في الأساس، هي أداة قرصنة. قال لي "نحن نجعلها تبدو وكأنها لوحة مفاتيح حتى تتمكن من اختراق أي شركة في العالم". وأضاف "إنها دليل على المفهوم".
صبيان يبلغان من العمر 17 عاما، وكلاهما يدعى ليئور (الجيش الإسرائيلي طلب مني عدم استخدام أسماء عائلات الطلاب)، صنعا هاتفا محمولا من الصفر وقاما ببرمجته لتقديم وتلقي المكالمات - إلى أن انفجر بسبب زيادة الطاقة. وقال أحدهما "المشروع لم يعمل كما هو مخطط له".
من الصعب الدخول إلى ماجشيميم نفسها. تتلقى المؤسسة تمويلها من الدولة الإسرائيلية ومؤسسة راشي، وهي مؤسسة خاصة مكرسة لمساعدة الشباب المحرومين. وهي تستهدف الأطفال الموهوبين في المناطق الأكثر فقرا في جنوبي إسرائيل وشماليها. ولا يتم قبول المتقدمين إلا بعد استبيان عبر الإنترنت، تليه مجموعة من الاختبارات الأكثر صرامة لقياس قدراتهم في مجال البرمجة واللغات والتفكير خارج نطاق المألوف. (برنامج آخر، جفاهيم أو "مرتفعات" - يستهدف الأطفال في وسط إسرائيل، حيث الثروة والفرص أكبر).
من بين 1400 طفل تقدموا العام الماضي، تم قبول نحو 500 طفل منهم ـ أكثر من ألفي طفل تقدموا بطلبات هذا العام. وقال لي أوري روتم، أحد المدربين "المدرسة يمكن أن تكون مملة لهؤلاء الأطفال - بعضهم يفشل فيها، ولكن يمكنهم أن يبذلوا قصارى جهدهم هنا، وبالتالي يحبونها".
ماجشيميم ليست تذكرة دخول تلقائية إلى الوحدة 8200 لكن كثيرا من طلابها يؤدون الخدمة العسكرية الإلزامية هناك: ثلاث سنوات للأولاد، وعامان للفتيات. أكثر ما ندركه هو أنه في الحصول على إذن بدخول ماجشيميم، فإنهم يشقون طريقهم إلى المسار السريع.
قال لي تال، وهو صبي يبلغ من العمر 18 عاما طويل القامة وجاد من ميتار، وهي مدينة يسكنها نحو عشرة آلاف نسمة إلى الشمال من بئر السبع "كانت هناك شائعات، ولكن لم يقولوا لنا إن لذلك أي علاقة بالوحدة 8200، وقالوا في نهاية الصف الـ 11، ستحصلون على دعوات لإجراء مقابلات في أماكن معينة (في الجيش الإسرائيلي)".
إذا كان هناك قلب ينبض لدولة الأمن الفائقة التكنولوجيا في إسرائيل - البقعة على الرسم البياني حيث يجتمع "الرائع" مع "الباعث على الخوف" - هو الوحدة 8200. ليس هناك عدد كبير من البلدان الأخرى التي تختلط فيها المؤسسة العسكرية بشكل وثيق مع المؤسسات الأكاديمية والشركات، لمصلحة كل القطاعات الثلاثة. في العام الماضي، تجاوز تصدير إسرائيل منتجات أمن الفضاء الإلكتروني - المصممة لحماية الشركات والمصارف والحكومات من المتسللين والمحتالين والمتلصصين من "الشبكة المظلمة" المتوسعة - ستة مليارات دولار، وهو ما يتجاوز حجم الصادرات الإسرائيلية من المعدات العسكرية لأول مرة.
اليوم إسرائيل، التي يبلغ عدد سكانها فقط ثمانية ملايين شخص، تقتنص نحو 10 في المائة من سوق الأمن الخاص بعالم الفضاء الإلكتروني، التي تنمو بسرعة بعد حالات القرصنة الرفيعة المستوى، التي في بعض الحالات - مثلما حدث في تارجت، وسوني العام الماضي – كلفت الرؤساء التنفيذيين وظائفهم. إسرائيل، مع ثقافة الشركات الناشئة النابضة بالحياة، هي في الأصل واحدة من أهم الأهداف في العالم لأموال شركات رأس المال المغامر.
على بعد أميال قليلة من حيث حضرت حفل التخرج، "مدينة التكنولوجيا المتقدمة" الجديدة آخذة في الارتفاع من التربة الرملية في صحراء النقب. وهي تهدف إلى تدعيم هذه الروابط وجذب المستثمرين من العالم بأسره، الذين يريدون الاستفادة من الخبرات في إسرائيل. المشروع يجمع بين مجمع مكاتب - تشمل قائمة المستأجرين فيه دويتشه تليكوم، وآي بي إم، وأوراكل، ولوكهيد مارتن، وإي أم سي، وباي بال - وبين جامعة بن جوريون في بئر السبع ومركز بحوث أمن الفضاء الإلكتروني التابع لها. وبحلول نهاية العقد الحالي، ستنتقل الوحدة 8200 ووحدات الاستخبارات والتكنولوجيا الأخرى في الجيش الإسرائيلي إلى هناك، أيضا.
لكن ماذا نقول عن هذا البلد الذي ينتقي أفضل وألمع الأطفال ويوجههم إلى وحدة التجسس؟
في بعض النواحي، تمثل الوحدة 8200 إسرائيل في أفضل وأسوأ حالاتها: حاضنة التكنولوجيا الفائقة التي تدرب بعضا من أذكى شباب إسرائيل، لكنها تستثني على نحو فعال الأقلية العربية – الذين يشكلون 20 في المائة من سكان إسرائيل – لأن عددا قليلا جدا منهم يؤدي الخدمة العسكرية، وهي إلزامية لليهود الإسرائيليين.
وتتجسس الوحدة 8200 أيضا على الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، أو تحت الحصار البحري والجوي في قطاع غزة، وفقا لتسريب "ويكيليكس" الذي استحدث ضجة العام الماضي.
في خطاب مفتوح في أيلول (سبتمبر) 2014، نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية وبُث على "القناة 10"، كشفت مجموعة مكونة من 43 شخصا في الخدمة، وجنود احتياط سابقون في الوحدة 8200، عما قالوا إنها كانت تكتيكات تجسس قسرية يجري استخدامها على الفلسطينيين الأبرياء، بما في ذلك مجموعة من المعلومات الجنسية والمالية المحرجة وغيرها من المعلومات.
ووصف أحد المبلغين عن المخالفات، في بيان صدر جنبا إلى جنب مع الخطاب "لحظة صدمته" عندما كان يشاهد فيلم "حياة الآخرين"، الذي أُنتِج في عام 2006، وهو فيلم حول التجسس المتفشي في جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية.
هدأت تلك الضجة منذ ذلك الحين، لكني أردت معرفة مزيد من المعلومات حول "8200". لا يسمح للضباط في الوحدة بمناقشة أمور خدمتهم، حتى مع الأقارب، وهناك قيود - كما اكتشفت - حول ما يمكن أن يقولوا بعد ترك الخدمة. ومع ذلك، سمح لي بمقابلة خريجي ماجشيميم. عندما سألت تال ما يريد القيام به بعد الخدمة العسكرية، أجاب بشكل حماسي إلى حد ما، كما لو كنت في مقابلة معه عن وظيفة "أود أن أشكل شركتي الخاصة، أو الانضمام إلى شركة ألعب فيها دورا مهما".
على الرغم من أنهم ممنوعون من مناقشة الأمر، إلا أن كثيرا من قدامى المحاربين في "8200" سعداء لذكر رقم الوحدة بحرية في عالم الشركات باعتبارها بطاقة خاصة بالنخبة. ومن الإنصاف وصف شمونة ماتايم باعتبارها إحدى العلامات التجارية الأقوى للأعمال في إسرائيل. جيل شويد، المؤسس المشارك لشركة تشيك بوينت، أكبر شركة لأمن الفضاء الإلكتروني في إسرائيل، كان في "8200". وكان فيها أيضا آفي حسون، كبير العلماء في إسرائيل، الذي يوزع مكتبه قروضا حكومية خالية من المخاطر لشركات التكنولوجيا الناشئة.
جمعية خريجي "8200"، التي تضم أكثر من 15 ألف عضو، تستضيف فعاليات التواصل وبرامج التوعية المجتمعية، بما في ذلك "مسرع" الشركات الناشئة المفتوح للعرب واليهود المتدينين، ومعظمهم لا يخدم في الجيش. الفريق 8، الذي يصف نفسه بـ "مَسْبَك" أمن الفضاء الإلكتروني يهدف إلى توفير المعرفة للشركات الناشئة، كان قد تم تأسيسه على يد ضباط سابقين في "8200" في تل أبيب في وقت سابق من هذا العام، ما جذب إريك شميت من "جوجل" كمستثمر. إسحق هرتسوج، رئيس حزب الاتحاد الصهيوني الذي يمثل يسار الوسط، استغل خدمته السابقة في "8200" ووظفها في حملته، عندما كان يسعى للإطاحة ببنيامين نتنياهو من منصب رئيس الوزراء في الانتخابات الأخيرة.
لكن ما الذي تقوم به الوحدة 8200 فعلا؟ إسرائيل، كما لا ينفك نتنياهو أبدا عن القول، تعيش في "حي سيئ" في الشرق الأوسط، وتحيط بها عدة بلدان صنفت على أنها دول معادية. وهذا يتطلب القرصنة من الطراز العالمي وأدوات ذكاء اصطناعي في الوقت الذي تنتقل فيه الحرب من ساحات المعارك التقليدية - برا وبحرا وجوا - لتشمل تضاريس الفضاء الإلكتروني. هذا المسرح الجديد للعمليات يحتاج إلى كل الأدوات الهجومية والدفاعية.
ووفقا لبعض التقارير الإعلامية، التي لا يؤكدها الجيش الإسرائيلي، كانت الوحدة مسؤولة عن دودة الكمبيوتر "ستكسنت" التي نشرت في عام 2010 ضد أجهزة الكمبيوتر في إيران، بما في ذلك تلك التي في منشآتها النووية.
جنبا إلى جنب مع دول مثل إيران - التي لديها قدرة هائلة في مجال الفضاء الإلكتروني – يوجد عديد من المتسللين غير الحكوميين أيضا الذين يضعون إسرائيل في أذهانهم. على مدى السنوات الثلاث الماضية، تجمع "نشطاء قراصنة" مؤيدون للفلسطينيين تحت راية #OpIsrael استهدفت المواقع الحكومية الإسرائيلية وأنظمة كمبيوتر المؤسسات العامة.
ووقع هجوم في 2013 عشية ذكرى المحرقة، وفي ذلك الهجوم وفي هجمات لاحقة، هدد بعض المتسللين بإطلاق "محرقة إلكترونية".
ووفقا لمحللي الاستخبارات، اختصاص الوحدة 8200 مماثل لاختصاص وكالة الأمن القومي، أو مقر الاتصالات الحكومية في بريطانيا، الذي يغطي كل شيء ابتداء من تحليل المعلومات في المجال العام إلى استخدام المشغلين البشر ومخابرات الإشارة الخاصة. واختصاصها الجغرافي هو في المقام الأول خارج إسرائيل ـ يشمل الأراضي الفلسطينية.
وقال لي بيتر روبرتس، وهو زميل باحث في معهد الخدمات المتحدة الملكية البريطانية "الوحدة 8200 تعتبر على الأرجح وكالة الاستخبارات التكنولوجية الرائدة في العالم، وتقف على قدم المساواة مع وكالة الأمن القومي في كل شيء ما عدا الحجم". وأضاف "إنهم يركزون تركيزا كبيرا على ما ينظرون إليه - بالتأكيد أكثر تركيزا من وكالة الأمن القومي - ويجرون عملياتهم بدرجة من المتانة والحماسة التي لا تجدها في أي مكان آخر".
وبصرف النظر عن "8200"، لدى الجيش الإسرائيلي أيضا وحدات تكنولوجيا وتجسس أخرى مع كوادر خاصة بها من الخريجين في مجال الشركات: وحدة كبيرة لاستخبارات سلاح الجو، "سي 41"، ووحدة الاتصالات والكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات، ووحدات استخبارات أصغر، سرية للغاية حتى إن الإسرائيليين لن يلفظوا أسماءها. وفي الشهر الماضي، أعلن الجيش الإسرائيلي أنه سيشكل "قيادة فضاء إلكتروني" جديدة لمكافحة تحديات جديدة في الحرب على الإنترنت.
وفقا لضباط سابقين، ثقافة الوحدة 8200 تشبه تلك التي لدى الشركات الناشئة. الجنود الذين يعملون في مجموعات صغيرة، لديهم موارد محدودة، للقضاء على التحديات التي - حرفيا، في بعض الحالات - هي مسائل تتعلق بالحياة والموت. ويتم تشجيع السلوكيات والتحديات التخريبية لمواجهة السلطة، حتى لو كان هذا يعني تحدي كبار الضباط.
قال رامي إفراتي، وهو ضابط كبير سابق في "8200" وصاحب مشاريع متسلسلة يقوم بإنشاء الشركة الناشئة الثالثة، "حلول فيرميتاس سايبر"، "في المخابرات، لا يمكنك العمل فقط من خلال النظام، تحتاج إلى أن تكون منفتح العقل". وأضاف "إننا نعلمهم كيفية العمل بشكل غير عادي".
وقال نير لمبيرت، رئيس جمعية خريجي الوحدة 8200، والرئيس التنفيذي لمجموعة إم إي آر، وهي شركة البنية التحتية لاتصالات الجوال "أعتقد أن أفضل فرضية أخذتها معي من هذه الوحدة هي القدرة على إدارة أنشطة كبيرة في مواقف غير مؤكدة، مع كثير من علامات الاستفهام بشأن البيئة - وفهم أنه يجب علينا تحقيق هذه المهمة".
التركيز المتزايد في "8200"، كما هو الحال في وكالات الاستخبارات الأخرى، ينصب على استخراج البيانات، وتحديدا القدرة على التنقيب في جبال من المعلومات للعثور على تهديد واحد عبر البريد الإلكتروني، أو الأنماط المتكررة التي تشير إلى شيء يعتبر غير سليم.
للحصول على فكرة أوضح عن الأدوات التي تستخدمها الوحدة في عملها، ذهبت بعد ظهر أحد الأيام إلى جامعة تل أبيب للقاء عوديد ميمون، أحد أبرز مختصي العالم في استخراج البيانات والذكاء الاصطناعي - تعليم أجهزة الكمبيوتر للقيام ليس فقط بما يُطلَب منها، ولكن التنبؤ بالأشياء التي لم تحدث حتى الآن. كتب ميمون عشرة كتب وحرر مجلدا يتألف من 1500 صفحة بعنوان "تعدين البيانات ودليل اكتشاف المعرفة". مثل أساتذة الرياضيات الإسرائيليين الآخرين، عمل لدى كل من أجهزة الاستخبارات والقطاع الخاص. في الماضي، كان يقدم النصح والمشورة إلى "فيرنت"، شركة رصد الصوت والفيديو الإسرائيلية التي توجد الآن في ميلفيل في نيويورك. في عام 2008 حصل على ميدالية من الموساد لخدماته لإسرائيل. ونادرا ما يعطي مقابلات، لكنه دعاني إلى مكتبه.
الخطوة الأولى في عمل الاستخبارات الإسرائيلية، كما قال لي، كانت الحصول على المعلومات الأولية. "هذا لن أتحدث عنه" كما قال، لكنه واصل الاعتراف بأن "8200 مهمة جدا هنا". بمجرد أن يتم جمع المعلومات الاستخبارية وتنظيمها في قاعدة بيانات، يحتاج المحلل إلى البحث عن قاسم مشترك.
هذا هو ما يطلق عليه مختصو البيانات الكبار الانصهار: مثلا، القدرة على إدراك جسم يمكن رصده من زوايا مختلفة من خلال وسائل مختلفة - وربما من خلال طائرة بدون طيار في الهواء، أو كاميرا على الأرض، أو على جهاز تنصت في الهاتف. يقوم البشر بذلك بشكل طبيعي، باستخدام حواسهم الخمس وما يفهم من السياق، ولكن بالنسبة لأجهزة الكمبيوتر فيجب تعليمها على ذلك. قد يقوم أحد المصادر الاستخبارية بتحديد شخص يتحدث في سيارة ما عبر الهاتف، في حين إن مصدرا آخر، باستخدام كاميرا على متن طائرة، يحدد السيارة نفسها. وقال ميمون "يمكنك إنشاء قاعدة المعرفة". وأضاف "أنت تعرف الآن أنه ليس فقط أن الشخص موجود في سيارة، ولكن لديك معلومات عن هاتفه المثير للاهتمام بالنسبة لك".
يمكن للمحللين بعد ذلك تطبيق خوارزميات التنقيب عن البيانات في "قاعدة المعرفة" هذه - وتحديد، مثلا، من قاعدة مكونة من عدة ملايين من المحادثات، أي منها ذو صلة. يمكن للخوارزميات أن تقوم أيضا بما يسميه ميمون "ضغط البيانات" - مثلا، إثبات أن هدفا ما يجري مكالمات كل يوم في الساعة 07:30 صباحا و04:00 مساء. وهذا يمكن أن يتم مطابقته مع معلومات استخبارية أخرى. وقال "العثور على طريقة العمل أمر مهم". لا يلزم التدخل البشري إلا في نهاية هذه العملية. لا يوضح البروفيسور ذلك ولكن يفترض أن الخيارات المتاحة يمكن أن تشمل عملية اعتقال، أو هجوم بطائرة بلا طيار، أو عملية عسكرية أخرى.
سألت ميمون عن "رافضي الخدمة" وخطاب احتجاج العام الماضي، فقال "أنا لا أريد أن أعلق. أنا لا أعرف التفاصيل". ومع ذلك، أضاف "بصفة عامة، ينبغي للمرء أن يكون حذرا للغاية. إذا أعطيتك سكينا، يمكنك استخدامها لتقطيع السلطة، ولكن يمكنك أن تفعل بها أشياء أخرى أيضا".
بعد نحو أسبوع من ذلك، في جزء آخر من جامعة تل أبيب، التقيت جلعاد، وهو طالب فلسفة يبلغ من العمر 29 عاما، وأحد قدامى المحاربين في "8200" ومن الذين وقعوا على الرسالة. هو اجتماعي وذكي، ومن ذلك النوع من الشباب الذي يجعل الإسرائيليين يفتخرون به. برع في الفيزياء والرياضيات في المدرسة الثانوية في شمال إسرائيل، وتم ضمه إلى "8200" في عام 2003، ليحتل رتبة ملازم بحلول الوقت الذي غادرها فيه عام 2009. قال "شعرت وكأني كنت أفعل شيا مهما، وهو أمر صعب، شيء قد أتعلم منه وشيء مفيد لبلدي".
لكن مع مرور الوقت أصبح جلعاد منزعجا من الأساليب التدخلية التي تستخدم ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. ويقول رافضو الخدمة "إنه طُلب منهم جمع المعلومات، ليس فقط حول الأشخاص الذين يشتبه في تآمرهم لإيذاء إسرائيل ولكن حول أعضاء أسرهم وجيرانهم وغيرهم ممن يمكن أن يوفروا معلومات عنهم". وشملت هذه المعلومات الحالات الطبية، والمشكلات المالية، والتوجه الجنسي – وهو ما يعتبر موضوعا حساسا في المجتمع الفلسطيني المحافظ. وقال أحدهم إنه أثناء تدريبه في "8200"، كان قد تم تعيينه لحفظ الكلمات العربية المختلفة لـ "شاذ جنسيا". وقال آخر إن الجنود قد يهاتفون بعضهم بعضا للاستماع عندما يناقش أحد الأشخاص المستهدفين حالة طبية "مضحكة" مثل البواسير.
من الاحتجاج، ظهرت صورة مشرقة للشباب الإسرائيليين الذين لا يزالون في سن المراهقة والعشرينات، وهم يتخذون قرارات من شأنها أن تؤثر في مصير فلسطينيين أكبر منهم بسنوات. وقال جلعاد "بطريقة ما، هذه السلطة تُذهِب العقل. يمكنك الدخول إلى حياة الناس وأنت تضحك حول عاداتهم الجنسية أو مشكلاتهم الطبية. وهذا يظهر مدى التعمق في الأمور. ويبين لكم مدى فساد السلطة".
سحبت إسرائيل قواتها من معظم الضفة الغربية في أوائل التسعينيات، وجميع القوات من غزة في عام 2005، ولكن يمكن لقواتها دخول المناطق التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية للاعتقال أو للعمليات الأمنية الأخرى. والفلسطينيون في كلتا المنطقتين يعتمدون على تصاريح للسفر إلى إسرائيل أو القدس، ما يعطي السلطات الإسرائيلية، كما قال المحتجون، القدرة على المقايضة للحصول على معلومات.
وقال جلعاد "أن تتجسس على الإيرانيين أو السوريين فهذا أمر، لكن التجسس على الفلسطينيين أمر آخر، لأنهم رعايا إسرائيل. إنه أشبه بالتجسس على مواطنيك".
عندما ذكرت الاحتجاج إلى بيتر روبرتس، التابع للمعهد الملكي للخدمات المتحدة، أشار إلى أن وكالات الاستخبارات المتنافسة كانت تستخدم تكتيكات مماثلة خلال الحرب الباردة. روسيا: لا تزال تستخدم أساليب مثل "فخاخ العسل" (مثل استخدام امرأة لإغراء رجل بغية الحصول على معلومات) من أجل الإيقاع بالضحايا ليتم استغلالهم. وقال "يعيش الإسرائيليون في بيئة أمنية مختلفة عن بقيتنا".
جلعاد وزملاؤه المحتجون فعلوا أشياء بحس الإجراءات المتبعة: فهم لا يزالون مجهولين. (جلعاد لم يسمح لي بطباعة اسم عائلته أو تصوير وجهه) وعرضوا شهاداتهم على الرقيب العسكري قبل أن ينشروها على الملأ. (وافقت الرقابة على النشر، فيما عدا استخدام الأسماء الكاملة للموقعين).
ومع ذلك، احتجاجهم الذي جاء بعد أقل من شهر من حرب غزة في الصيف الماضي، تسبب في حالة من الغضب، كثير منها تم توجيهه نحو المبلغين أنفسهم. ويحمل بعض منه مسحة من الاستياء: هنا تجد بعض شباب إسرائيل الأوفر حظا ينقلبون على المؤسسة الأكثر احتراما في البلاد: الجيش. قال موشيه يعالون، وزير الدفاع الإسرائيلي، سيتم "التعامل مع رافضي الخدمة باعتبارهم مجرمين".
في الواقع، لم يتم توجيه أي اتهامات ضدهم، على الرغم من أنهم تلقوا في كانون الثاني (يناير) خطابات تخبرهم بأنهم لم يعودوا من جنود الاحتياط. جلعاد يكتب الآن أطروحة درجة علمية حول قضايا حرية التعبير، وقال "إنه يشعر بخيبة الأمل لأن الاحتجاج لم يحقق نتائج تذكر. الشيء الذي يزعجنا هو أنه ما من أحد واجه مضمون ما قلنا. نحن لا نقول إن إسرائيل دولة سيئة أو إن الإسرائيليين أشرار - نحن لا نقول ذلك. (لكن) يعتقد الناس أنها كانت تهديدا للدفاع عن النفس المشروع في إسرائيل. إنهم لا يأخذون انتقاداتنا على محمل الجد".
وبعد أقل من عام، تم تقريبا نسيان احتجاج رافضي الخدمة - لكن المجمع الصناعي العسكري الخاص بالفضاء الإلكتروني يتحرك من نجاح إلى نجاح. وإذا كانت الحديقة الإلكترونية المزدهرة في بئر السبع تتطور كما يحلو لمؤيديها، يمكنها - بحسب المشاريع الإسرائيلية الكبرى لبناء الأمة – في أحد الأيام أن تنافس بناء تل أبيب من قبل الصهاينة الأوائل على الكثبان شمال يافا، التي بدأت قبل قرن من الزمان. في الفترة الأخيرة قال لي يوآف تزوريا، وهو شريك لدى JVP Cyber Labs، وهي من أوائل الشركات التي جاءت إلى مجمع المكاتب "إسرائيل، على المستوى الوطني، بحاجة إلى أن تكون ممتازة في الفضاء الإلكتروني. للأسف، نحن نتعرض للهجوم باستمرار، المصارف، والبنية التحتية الحساسة، والحكومة". شركة JVP، وهي شركة لرأس المال المغامر مقرها القدس وتتولى إدارة 1.1 مليار دولار، تستضيف وتحتضن الشركات الواعدة في المجمع الموجود في بئر السبع، التي تم إنشاء نصفها تقريبا على يد أصحاب مشاريع لديهم خلفية في الجيش الإسرائيلي أو وكالات شبيهة به.
وكان أحد الاستثمارات الأولى للشركة هو CyActive، التي كان أحد المسؤولين فيها، وهو شلومي بوتنارو، متحدثا في حفل تخريج ماجشيميم الذي حضرته. هذه الشركة واحدة من الشركات التي تقع في طليعة الدفاع الإلكتروني، بما لديها من "برامج تنبؤية" مصممة لاستباق تهديدات القرصنة التي لم تخرج إلى حيز الوجود بعد. وقال لي ليران تانكمان، الشريك المؤسس لشركة CyActive، في مكتب جديد تماما إلى درجة أنه لم يكتمل وضع الأثاث فيه "بالطريقة نفسها التي يحاول بها علماء الأحياء أن يتنبأوا ماذا ستكون عليه إنفلونزا السنة المقبلة، لدينا برامج تستطيع أن تتنبأ بالنحو الذي ستتطور عليه برامج اليوم والتهديدات الخبيثة".
إذا كانت المهارات المتقنة لدى إسرائيل في مجال القرصنة والتجسس والفضاء الإلكتروني، التي تم تطويرها في الجيش، يمكن أن تُنشَر في القطاع الخاص لتحقيق أهداف سيئة، فليس هناك كثيرون يلاحظون ذلك. مؤسسة "الخصوصية الدولية"، وهي إحدى الجماعات المدافعة عن حقوق الإنسان، ذكرت أخيرا أن شركتين من الشركات العالمية ذات الجذور الإسرائيلية، Verint وNice Systems، تزودان تكنولوجيا المراقبة إلى بلدان قمعية في آسيا الوسطى، على نحو يسمح لها "بالوصول غير المحدود إلى ما يقوله المواطنون في المكالمات الهاتفية ونشاطهم على الإنترنت على أساس عام وبدون تمييز". (في رد على ذلك التقرير، قالت Verint "إنها لم تنفذ تعاملات إلا مع البلدان التي لها علاقات تجارية مع إسرائيل وبما يتفق مع الأنظمة الحكومية". لكن شركة Nice رفضت التعليق).
تقريبا لم يكن هناك أحد شعر بالتقرير في إسرائيل، حيث المخاوف الأمنية تتفوق على مطالب الخصوصية. أكثر من نصف الناس في استطلاع أجرته جامعة حيفا أخيرا قالوا "إنهم مستعدون لأن يدَعوا الدولة تراقب نشاطهم على الإنترنت إذا كان هذا يساعد على تعزيز الأمن القومي". بحلول 2020، حين تكون الوحدة 8200 وأقسام التكنولوجيا والاستخبارات الأخرى التابعة للجيش الإسرائيلي قد انتقلت إلى بئر السبع، فإن الصلات الموجودة الآن بين الجيش والجامعات والشركات ستكون منظورة في المدينة، التي يريد المسؤولون الإسرائيليون تطويرها لتصبح بديلا عن تل أبيب.

الأكثر قراءة