محاربة المفاهيم الخاطئة
إحدى نواحي العلم "الجديدة" اليوم هي قبول دور علم الأعصاب ومفاهيم الإدراك في اختلاف الطرح بين الناس، الذي يمتد طبيعيا إلى خلاف يمتد إلى الجماعات والدول، ليس بسبب المصالح فقط، وإن كانت مركزية في حسابات الكل، ولكن أيضا من خلال البيئة والإطارات الأيديولوجية التي تشكل تفكير المجتمعات. ما نجمع ونختزل أفرادا وتجمعات ينبع من إدراكنا وتجاربنا. غالبا ما تكون المصطلحات هي القناة بين الإدراك والتعبير. تفكيك المفاهيم الخاطئة نقطة بداية لتأسيس أرضية ثقافية قابلة للنقاش الموضوعي. الأرضية الصالحة ضرورية لأن الفكر السيئ يطرد الفكر النير. مناقشة الشأن العام كثيرا ما تثير حفيظة واهتمام الكثير في ظل جو ثقافي وجيوسياسي وتاريخي ضاغط. مواد الطرح العام معقدة بطبعها، ولكن لما تكون البيئة الثقافية مثقلة بمفاهيم خاطئة تزيد العتمة ويغلب الطالح على الصالح لأن مستوى الكفاءة ليس عاليا. سوف أتطرق لأربعة مفاهيم تشغلني.
الأول أننا في الغالب لا نفرق بين المؤسسة والمنظمة، الأولى محيط فكري وتنظيم رسمي (الأنظمة والقوانين) وغير رسمي (الثقافة والعادات) ينظم حراك المجتمع، بينما الثانية لاعب في الوسط المجتمعي، قد يكون اللاعب شركة أو وزارة أو حكومة أو فردا. تجد الكثير يصف وزارة العمل أو شركة أرامكو بأنها مؤسسة، بينما هناك غياب لافت عن التفكير المؤسسي مثل نظام ضريبي أو نظام عمل أو نظام منافسة أو نظام القضاء والتنفيذ ونظام الإفلاس، مثال على المؤسسة غير الرسمية أن هناك نزعة ثقافية مؤثرة في التصرفات الاقتصادية مثل تفادي الفوائد المصرفية للكثير (لاحظ الترابط بين الأيديولوجيا والمؤسسات)، أو عدم الحرص على دفع الزكاة الاختيارية أو درجة الترابط الأسري.
ثانيا، ترسخ مفهوم اقتصادي خاطئ ذلك أن الدول الأقل تكلفة هي الأفضل بينما العكس هو الصحيح غالبا. مرد هذا المفهوم هو إدمان الاقتصاد الوطني على الدعم، بل إطلاق الدعم دون قيود ومحاذير مؤسساتية، ما أثر في أنماط التصرف وحراك المجتمع خاصة في النواحي الاقتصادية الحاسمة في نجاحه التنموي من عدمه. الاستحقاق الاقتصادي واضح: إعادة هيكلة الدعم بما يخدم النواحي الإنتاجية ومساعدة غير القادر لحين يقف على أقدامه. نتيجة فوضى الدعم أننا أصبحنا لا نفرق بسن دور المؤسسات وحتى دور الأفراد ناهيك عن الأجهزة البيروقراطية الفاعلة نظريا. قبل عدة أسابيع رفعت أبو ظبي أسعار الكهرباء والماء 40 في المائة لإيقاف الهدر، بينما يرى البعض لدينا أن تغيير الدعم محفوف بالمخاطر، بينما عدم تعديل الدعم يحمل مخاطر أعلى على الجميع.
المفهوم الثالث مرتبط بالجدل حول الأراضي، حيث يرى الكثير أن تطبيق الزكاة أو الرسم على الأراضي هدفه الأساسي هو إشكالية الإسكان، ولكن هذا خطأ منهجي في الفكر وسياسة ناقصة للتعامل مع هذا المرفق الحيوي اقتصاديا. إدارة المرفق أهم بكثير من دورها في الإسكان مهما بدأت إشكالية الإسكان كبيرة في نظر البعض. إدارة المرفق بكفاءة مؤسساتية لا تتم دون رسم بلدي يربط بين الخدمة والتكاليف مجتمعيا ويؤسس لسيطرة الحكومة على الموارد وسبل تحفيز إدارة المرفق. تتقاطع إدارة المرفق مع الإسكان تساعد في حله لأن تكلفة الأرض جزء مؤثر من تكلفة الإسكان، ولكن إدارة المرفق اقتصاديا أشمل وأعمق أثرا.
المفهوم الرابع وهو الأكثر صعوبة. هناك مفهوم ضمني جمعي لدى وسط الأعمال يطالب بالتوسع الاقتصادي، ومن يستطيع أن يطالب بالعكس؟ لأن التقدم والنمو لا يكون إلا بالتوسع، ولكن هناك إشكالية فكرية، فالكثير لا يفرق بين النمو الحقيقي والتوسع من ناحية وهناك من لا يفرق بين حقيقة أن الاقتصاد السعودي لديه قدرة استيعابية كبيرة (رفعت بسبب تواصل مصروفات حكومية عالية مرتبطة بالدورة النفطية) أكثر من عوامل الإنتاجية والإنتاج المتوافرة طبيعيا. أعراض فوضى هذا المفهوم واضحة في السياسة العمالية وممارسات التعليم العالي، حيث يرى كثير من رجال الأعمال أن أي سياسة استقدام غير مناسبة إذا لا تسمح بالهجرة الاقتصادية غير المنظمة للمملكة، بينما لا تجد وزارة التعليم العالي حرجا في عدم جودة أغلب طلاب البعثات خاصة حملة الدكتوراه من الخارج أو الداخل.