مؤشر حوكمة الشركات السعودية

ستكون السوق السعودية على موعد يوم الثلاثاء المقبل لتطور جديد وهو إصدار النسخة الأولى لمؤشر حوكمة الشركات الذي تبنته جامعة الفيصل ودعمته الهيئة العامة للاستثمار، ويحق لجامعة الفيصل أن تزهو بهذا أن تعلن إطلاق النسخة الأولى لهذا المؤشر الذي طالما انتظرته السوق والمهتمون بحوكمة الشركات. لكن لماذا أرى أن هذه خطوة مهمة جدا للسوق المالية؟ لا يوجد كثير من المعلومات السهلة أمام المستثمرين في السوق المالية من أجل اتخاذ قراراتهم بخصوص الشركات التي يمكن المخاطرة والاستثمار فيها، فالمعلومات السهلة المتاحة هي فقط سعر السهم وتاريخه ومؤشر القطاع والسوق، لكن هذه جميعها تتأثر بعديد من العوامل، وكثير جدا من هذه العوامل يقع خارج نطاق الشركة نفسها. من المعروف أن المخاطر التي تواجه المستثمرين في سوق الأسهم والأسواق المالية عموما تنقسم إلى مخاطر منتظمة Systematic Risk وهي المخاطر المتعلقة بالسوق المالية ككل والاقتصاد بشكل كامل وهي مخاطر لا يمكن السيطرة عليها من خلال تنويع الاستثمارات، وهناك مخاطر غير منتظمة Unsystematic Risk وهي التي لها علاقة بالشركة المستثمر فيها أو الصناعة ويستطيع المستثمر التغلب على المخاطر غير المنتظمة من خلال التنويع في استثماراته فلا يضعها كلها في شركة واحدة أو في قطاع واحد بل يجب عليه أن يوزعها توزيعا جيدا، كما أن على المستثمر القراءة الجيدة للقوائم المالية ومستقبل الشركة ويحلل المعلومات المالية بدقة، وأن يقرأ تقرير مجلس الإدارة لفهم توجهات المجلس. لكن حتى هذه المخاطر غير المنتظمة لا يمكن النجاة منها واتخاذ قرارات جيدة بناء على المعلومات المالية دون معرفة واضحة لكيفية إعداد هذه المعلومات المالية والقرارات التي تتخذها الإدارة.
فلقد ظهرت في بدايات هذا القرن "قرن المفاجآت منذ استهل" عاصفة من الانهيارات والانكشافات المالية والأزمات الاقتصادية الضخمة في كل دولة تقريبا في العالم، لم تسلم حتى الشركات السعودية منها، وليست المشكلة في مجرد الانكشاف والعسر المالي، بل إن المشكلة كانت في التلاعب الفاضح والجريء في المعلومات المالية بل حتى المعلومات الصناعية والمشاريع، نتذكر على سبيل المثال ما حصل في شركة أيرباص عندما أعلنت وبقوة عن طائرتها العملاقة، ووقعت الإدارة كثيرا من العقود التي تبين فيما بعد أنها مستحيلة التنفيذ في الوقت المقرر لها، لقد تصرفت الإدارة وعن قصد من أجل بث معلومات مبالغ فيها للتأثير في توقعات المحللين ومن ثم رفع سعر السهم وكل ذلك تم دون مراقبة جيدة من أصحاب المصالح في الشركة. هناك كثير جدا من الأمثلة التي يصعب حصرها حول استئثار مجموعة مغلقة في دائرة ضيقة بقرارات الشركة المصيرية التي يعلق آلاف من الناس مصيرهم بها. لقد تلاعب مجموعة من التنفيذيين في مستقبل الناس وهم يعتقدون أنها مجرد مسألة مصالح شخصية.
لقد تبين بعد مناقشة كثير من الحالات أن سعر السهم وقيمة مؤشر السوق والقطاعات وأن آراء المحللين المعتمدة على المعلومات المالية التي تقدمها الشركات لن تغني شيئا ولن تمكن من اتخاذ قرار جيد، إذا كانت الإدارة في الشركة بيد من يستطيع -وحده أو بمساندة فريق صغير معه- أن يقدم معلومات مضللة للجمهور من أجل منافعه الشخصية. لهذا كان لزاما أن يتم تطوير معايير وقواعد مقبولة بشكل عام عن كيفية حكم وإدارة واتخاذ القرار في الشركات، قواعد تضمن عدم سيطرة فئة معينة على القرار في الشركة وتوجيهه لمصالحهم الشخصية، قواعد تضمن مشاركة واسعة من قبل أصحاب المصالح من غير التنفيذيين في قرارات الشركة المصيرية، قواعد تضمن شفافية ورقابة جيدة. لهذا جاءت مبادئ وقواعد الحوكمة من منتصف التسعينيات من القرن الماضي من أجل تحقيق ذلك.
لقد ظلت قواعد الحوكمة منذ ذلك الحين تترنح بين مبادئ عامة وقواعد أكثر دقة وصرامة، بين الإلزام والإرشاد، بين مفهوم الحاجة والترف العلمي. لكن مع انهيارات العقد الأول من القرن الحالي تبين أن الأمر أخطر من أن يضيع بين هذه الردهات وجدير أن يؤخذ على محل الجد. وكما النار في الهشيم انتشر هذا المفهوم المعقد وهو "لم ينضج بعد" وفي كل دولة تقريبا، وانهمرت الأبحاث والدراسات حوله ونتائجه، وانعقدت المؤتمرات في كل جامعة وفرع، وقررت الأسواق المالية الأخذ بهذه القواعد وإلزام الشركات بها بشكل متدرج ومن بين تلك الأسواق التي أخذت هذا الموضوع على محمل الجد، السوق المالية السعودية.
طورت هيئة السوق المالية قواعد للحوكمة متوسطة التعقيد تميل إلى تبسيط المعاني والمفاهيم وذلك حتى تستطيع الشركات والمستثمرون التعامل معها، وبدأت بهذه القواعد كاسترشادية ثم بدأت تتحول إلى الإلزام شيئا فشئيا، حتى أصبح مفهوم وقواعد الحوكمة من العبارات المعتادة في التقرير المالي لكل شركة. لكن لم يستطع أحد حتى اليوم أن يثبت أن هذه المعلومات التي تنشرها الشركات عن مدى التزامها بالقواعد تؤثر في قرارات المستثمرين، لم يستطع أحد أن يقدم دليلا على أن المستثمرين يهتمون بقراءة هذه المعلومات أو يتخذون قرارات البيع والشراء بناء عليها. في ضوء كل هذا تأتي أهمية إطلاق مؤشر حوكمة الشركات الذي تبنته جامعة الفيصل، فالمستثمرون اليوم في حاجة ماسة إلى مقياس مدى قدرة التنفيذيين على إدارة الشركة لمصالح مجموع أصحاب المصلحة وليس لفئة دون أخرى، مقياس حر ومستقل يوضح حجم المخاطر المتعلقة بمدى سلامة المعلومات المالية والتقرير المالي.
سيكون لهذا المؤشر أثر بعيد المدى ليس فقط على تصحيح قرارات المستثمرين حول مدى سلامة علمية اتخاذ القرارات في الشركة، بل سيتعدى الأمر إلى رفع مستوى الوعي العام بهذه المسألة المهمة جدا، سيكون على الشركات تطوير عملها وممارساتها وإفصاحها كلما ارتفع مستوى الوعي، سيكون عمل مجالس الإدارات وحيادها على المحك كلما ظهرت أرقام المؤشر، سيكون على هيئة السوق المالية اتخاذ قرارات أشد صرامة مع حجم المفاجآت التي سيجلبها المؤشر معه، لكن الأمر ليس تحديا بقدر ما هو إصلاح نوعي للمعلومات التي يتأثر بها السهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي