«كورت جودل» .. ناقد المنطق ومجنون الرياضيات
في أيار (مايو) 1948 مثل أمام القاضي الأمريكي فيليب فورمان – المسؤول عن التجنيس - مهاجران أحدهما نمساوي يدعى كورت جودل، والثاني ألماني يسمى ألبير أينشتاين. أما الأول، فهو في تقدير فلاسفة المنطق أكبر عقلية منطقية معاصرة استطاعت نزع الوثوق واليقين عن علمي الرياضيات والمنطق، بل وصفه فون نيومان بأنه أعظم منطقي ظهر منذ أرسطو. وأما الثاني، أي أينشتاين فقد كان وقت مثوله أمام القاضي مشتهرا على عكس زميله جودل.
لكن ليس من مهمة القاضي، ولا بإمكانه، أن يناقش منطق جودل أو نسبية أينشتين، وإنما كان بين يديه ذاك اليوم ملفان للتجنيس يعالجهما وفق المعايير الإدارية المقررة. لكنه بعد أن كاد ينتهي من المعاملة مع جودل، طرح عليه سؤالا أخيرا قبل قفل الملف: سيد كورت جودل، هل لك في الأخير كلمة تود قولها؟
أمام دهشة الجميع، بدأ جودل يشرح للقاضي كيف أنه حسب بطريقة رياضية ومنطقية دقيقة بنية النظام السياسي والانتخابي الأمريكي، فوجد أنه يسير نحو الدكتاتورية. كان آينشتاين يعرف جيدا جنون صديقه جودل، وهوسه بأن يحسب كل شيء، لذا سارع إلى إمساكه وحثه على التوقف عن الكلام، حتى لا يثير إشكالا مع القاضي، الذي بدت على وجهه ملامح الاستغراب، وبدأ يركز النظر جيدا في الرجل النحيف الماثل أمامه، لعله يفهم شيئا من حديثه ومعادلاته الرياضية، وهو إذا فهم، ربما يكون له مبرر للامتناع عن إعطاء الجنسية لهذا الذي يتهم النظام الأمريكي بإمكان انقلابه إلى الدكتاتورية.
من قال إن مقدارا من الجنون شرط أساس للإبداع في حقل الفن فقط؟! إني أراه مقدارا مطلوبا للإبداع بإطلاق، حتى في أكثر المجالات المعرفية خضوعا للعقلنة كالمنطق والرياضيات. والدليل هو كورت جودل. فعلم الرياضيات، ونظامه الاستدلالي المنطقي كان يحتاج إلى مقدار هائل من الجرأة، ومقدار غير قليل من الجنون، ليتم الثورة عليه لذا أقول: إن جودل، ذاك الرجل الذي يصر على أن يقدم كشف حساب زيف الديمقراطية الأمريكية أمام القاضي المسؤول عن تجنيسه، هو الرجل المجنون الذي كان ينقد علم الرياضيات منذ ثلاثة قرون - أقصد منذ تبجيل ديكارت للمنهجية الاستنباطية الرياضية، وتأسيس لايبنز للمنطق الرمزي - ليعاد التفكير جذريا في أسسه المنطقية.
والواقع أن شخصية كورت جودل شديدة الغرابة، تماما كآرائه الفلسفية إذ يشير بيير كاسو نوكيس في كتابه "شياطين جودل" إلى أن هذا الأخير كان مريضا بفوبيا الشك في كل شيء، حتى فيما يأكله، لذا امتنع في أواخر حياته عن الطعام فمات جوعا وكان وزنه في أواخر حياته ثلاثين كيلوجراما، أي مجرد هيكل عظمي قادر على قليل من الحركة، لكنه قادر على كثير من التفكير. وعندما كان ينزل في فندق لم يكن يحجز غرفة واحدة كباقي خلق الله، بل يحجز غرفتين، ينام في واحدة ويترك الثانية فارغة. ويظن نوكيس أن سبب ذلك هو اعتقاد جودل بأن له قرينا غير مرئي، فكان يحرص في سفرياته على أن يحجز له هو أيضا غرفة ليقيم فيها.
لكن هذا لا يعني أن منطق الرجل ونظراته المنهجية مجرد خبط مجنون، بل هي رؤى منهجية محسوبة بدقة مذهلة؛ حتى أن أكبر العقول الرياضية عجزت عن تسفيه مبرهنتيه (عدم البت، واللا تمام) اللتين هدم بهما اليقين الرياضي والمنطقي. بل إن أستاذه دافيد هلبرت، الذي يعده بعض المؤرخين أعظم علماء الرياضيات في القرن العشرين، أصابه الدوار واندهش عندما انتقده جودل، حتى قال المقربون من هلبرت إن حالته النفسية تأثرت كثيرا منذ ذلك اليوم "المشؤوم" الذي حاول فيه مناقشة جودل. لأنه استشعر بالفعل أن كل بنائه العلمي أصبح بلا أساس استدلالي مكين، ولذا قضى بقية حياته كلها يبحث أين الخلل في النسق الرياضي؟ ولم يستطع الاهتداء إليه، ولا تجاوز مبرهنتي تلميذه "المجنون". وفي سنة 1930 دخل جون فون نيومان في نقاش منطقي مع جودل، ولكن عندما أخذ هذا الأخير يخلخل بنقده أسس المنظومات الرياضية والمنطقية، لم يجد نيومان مخرجا ولا ردا، فقرر يومها أن يهجر المنطق إلى الأبد.
لكن ما هو هذا الإسهام المنطقي الذي قدمه جودل فاستحق به أن يرتفع إلى هذا المقام؟ إن كل الحكاية قائمة على مقال وجيز نشره عام 1931. لكن رغم هذه الوجازة فقد كان هذا البحث نقدا في صميم البينة الرياضية والمنطقية؛ أسقط يقين أنساق الاستدلال الصوري. حيث أثبت جودل أن علم الرياضيات - الذي يصنف كأرقى أنماط علم البرهان – ليس مكتمل البرهنة، بل ولا بإمكانه أن يبلغ لحظة تمام البرهان؛ لأنه عاجز عن البرهنة على كل عناصر نسقه البنائي، حيث لابد له حتما من مقدمة أولية غير قابلة للتوكيد.
والحقيقة أنه لا ينبغي أن نفصل إبداع جودل عن مجمل السياق الفلسفي والرياضي لبداية القرن العشرين. فإذا استرجعنا صيرورة النقـــــاش المنهــــــاجي "الميثودولوجي"، سنجده قد بدأ عند مستهل ذلك القرن بمجموعة من الأسئلة الإشكالية التي تلتقي كلها عند مطلب مراجعة أسس التفكير. ففي عام 1900 قدم برتراند راسل مفارقته الشهيرة المسماة بـ"مجموعة كل المجموعات". وكانت نظرية المجموعات يُظن أنها النظرية الكبرى التي ستوحد النسقية الرياضيات. لكن مفارقة راسل وما استتبعها من نقاش أظهرت أن النظرية التي فتحت الأمل أظهرت مشكلة عميقة تسكن الأعماق، أي تسكن في أساس التفكير المنطقي والرياضي. ولذا نلاحظ في بداية القرن العشرين أن علماء الصورنة الرياضية والمنطقية شغلهم سؤال إشكالي ملح مفاده: هل ثمة خلل ما داخل النظام الرياضي لم يتم كشفه، أم أن مجمل النسق الرياضي يحتاج إلى برنامج معرفي يعيد تأسيسه من جديد؟
استجابة لهذا الاستفهام، حاول الرياضي الألماني دفيد هلبرت حل الإشكال، بتقديم برنامج معرفي يزعم فيه إمكان تقديم "قائمة من القواعد المنطقية التي تسمح بإجراء العملية المنطقية ميكانيكيا". بل زعم أنه ببرنامجه هذا يمكن حساب صدقية البرهنات المنطقية حسابا رقميا.
وكان لتلميذه كورت جودل إسهام مهم عندما وضع الأرقام التي ستسمح بحساب صدقية البرهنة المنطقية، وهي الأرقام التي ستسمى من بعده بـ"أرقام جودل"، وكان عمره وقتئذ خمسة وعشرين عاما. لكن جودل سينتهي لاحقا إلى عكس المقصود، فبدل مساعدة أستاذه هلبرت سيخلص إلى تدمير مشروعه كليا، وذلك لأنه تنبه الى أن ثمة حقائق داخل النسقية الرياضية غير قابلة للبرهنة. وتطويرا للفكرة وإيضاحا لها سينشر سنة 1931 مقاله الشهير الذي سيؤدي إلى قطيعة معرفية مع أستاذه هلبرت.
والحقيقة أنه بمقاله هذا لم يبطل مشروع أستاذه هلبرت فقط، بل استنزل الرياضيات والمنطق، وجميع أنساق الاستدلال الصوري، من مقامها العلمي المكين واليقيني لتصير مجرد بنى استدلالية عاجزة عن البرهنة على كل أسسها. وبالتالي فهي من حيث درجة اليقين لا ينبغي أن تعلو على غيرها من أنساق الخطابات المعرفية.
يحتوي بحث جودل على مبرهنتين اثنتين سماهما بـ"عدم البت، واللا تمام"، أكد بهما أن النمط المنهاجي الصوري أبعد ما يكون عن اليقين والجزم اللذين نعته بهما أتباع المنطق الكلاسيكي؛ لأن النسق الصوري – باستثناء نمط الأنساق الابتدائية - لابد حتما من أن يحتوي على الأقل على قضية واحدة تكون صادقة، لكن ليست قابلة للبرهنة داخل النسق، أي بالاكتفاء بأدواته الخاصة. لذا يصبح العالم المنطقي ملزما لإنجاز برهنته على نسقه من أن ينتقل إلى خارج النسق، بالاعتماد على نسق أعلى يتوافر على القدرة على وصف النسق السابق. وهذا النسق الأعلى هو بدوره يحتاج إلى نسق أعلى منه يكون واصفا له. وهكذا دواليك.
وهذا الاحتياج الذي يمس كل الأبنية المنطقية الصورية هو ما جعل جودل يصرح باستحالة بناء نسق يتميز بالاكتفاء الذاتي والتمام. كما أكد أن الطريقة المنهجية الصورية ليست كافية، ولابد من توسل منهج الحدس. وبمبرهنتيه الاثنتين فصل جودل بين الحقيقة والبرهان. فإذا كانت الرياضيات والمنطق الكلاسيكي يقرن الحقيقة بالبرهنة، فإن جودل سيؤكد أن داخل كل الأنساق الصورية غير الابتدائية معطيات حقيقية لكنها غير قابلة للبرهنة. وبالتالي فما هو مبرهن لا يعني بالضرورة أنه حقيقة. وما هو غير مبرهن لا يعني بالضرورة أنه غير حقيقي.
لقد كان لهذا البحث الوجيز دوي كبير في أوساط فلاسفة المنطق وأبستيمولوجيا الرياضيات. وقد كان له من الأثر بحيث إنه نزع عن جميع أنساق وطرق التفكير الصوري مزعم الإطلاقية والجزم. لذا ليس صدفة أن تصنف مجلة التايمز الأمريكية كورت جودل – في عددها ليوم الإثنين 29 مارس 1999- ضمن عشرين شخصية علمية الأكثر أهمية في القرن العشرين.
* أستاذ فلسفة وكاتب مغربي