مفاتيح الدخول إلى عالم «هيجل» الفلسفي

مفاتيح الدخول إلى عالم «هيجل» الفلسفي
مفاتيح الدخول إلى عالم «هيجل» الفلسفي

كل من باشر قراءة النص الهيجلي إلا يستشعر أنه أمام مركب نظري مستغلق، ملفوف بأسلوب ليس طلق العبارة ولا سهل المأخذ؛ ومن ثم تجد القارئ المبتدئ في حقل التفلسف، مرغما على التماس مفاتيح لفك بعض مستغلقات المعجم الهيجلي، وشبكة أفكاره المنظومة بنسج نثري نادر من حيث قوة وتماسك البناء.

ومن أشهر الكتابات المتخصصة في شرح الفلسفة الهيجلية، كتب ولتر ستيس، وجون هيبوليت، وألكسندر كوجيف، وهربرت ماركيوز؛ خاصة في كتابه "نظرية الوجود عند هيجل"، وإيريك فايل فيما يخص الفكر السياسي الهيجلي. ومن تجربتي في دراسة الفلسفة الهيجلية أجد نصوص هؤلاء ذات فائدة لأي دارس يروم تقريب متن هيجل. لكن لابد من القول أيضا إن شروحاتهم وتأويلاتهم لا ينبغي أن تؤخذ بوثوق، بل لابد من الحذر أحيانا كثيرة من بعضها، وخاصة من تلك التي قدمها كوجيف وماركيوز؛ لأنني أراها تقدم فلسفة الشارح أكثر من فلسفة المشروح (هيجل)!

كما أن المكتبة الفلسفية العربية شهدت اهتماما بهيجل ومتنه. ويعد الدكتور إمام عبد الفتاح إمام – بكتاباته وترجماته – إماما رائدا في نقل هيجل إلى لغة الضاد. لكن مع الأسف الشديد لا نزال نفتقد الترجمة الكاملة لمؤلفاته. والترجمات العربية المتداولة يعيبها – في تقديري - أنها جد متسرعة في نقل العبارة الهيجلية. حيث يعوزها الاجتهاد في بناء المفهوم الفلسفي القابل لاستضافة المفهوم المراد ترجمته. أجل إن مترجم هيجل – سواء إلى العربية أو إلى غيرها من اللغات – يحتاج ابتداء إلى تأسيس معجم هيجلي في لغته. وهذا لا يتأتى إلا باستبطانه الروح الهيجلية. وذلك لأن هيجل نفسه بنى لغة مفهومية خاصة به، وطريقة جديدة في الاستعمال الدلالي للمفاهيم الفلسفية؛ إلى الدرجة التي تجعلني لا أبالغ لو قلت إن هيجل لم يكتب بالألمانية بل كتب بالهيجلية.

ثم إن القول بالتماس مفاتيح فهم هيجل عند شراحه (ستيس، كوجيف، هيبوليت ...)، سيكون قولا خطيرا لو تركناه مطلقا على عواهنه. إذ ثمة استدراك لابد من توكيده، وهو: لا يمكن فهم فيلسوف ما دون الإنصات إليه؛ لأنه مهما كانت جودة المداخل والكتب التي تقدم الفيلسوف؛ فإنها ليست غناء عن قراءة متونه. وفي موضوعنا هذا، فإن هيجل رغم كونه فيلسوفا ذا لغة مستغلقة، فقد قدم لنا نصوصا ثمينة جدا كتبها كخلاصة لفكره الفلسفي. فضلا عن أن المنشور من محاضراته ودروسه، نجده مسطورا بلغة أقل غموضا من كتبه التي نشرها كتآليف. وأعني بكتب المحاضرات: "موسوعة العلوم الفلسفية" و"الإستيطيقا أو فلسفة الفن"، و"دروس في تاريخ الفلسفة"، و"فلسفة الدين".

وأرى كتاب الموسوعة أفيد وأولى بأن يكون المدخل إلى هيجل؛ لأنه ليس كغيره من كتب الدروس والمحاضرات التي نشرها التلامذة من بعد وفاة المعلم، بناء على ما وثقوه في دفاترهم. بل هو نص اعتنى هيجل عناية خاصة بنشره بنفسه، بل كان ينظر إليه بوصفه أهم كتاباته على الإطلاق. وقد أصدر طبعته الأولى عام 1817، ثم جدده في طبعتين لاحقتين (طبعة 1827، وطبعة 1830). وبما أن هيجل توفي في عام 1831 أي بعد سنة واحدة من تجديد كتابة نص الموسوعة، فإن هذا المتن يعبر عن النسق الفلسفي الذي ارتضاه هيجل حتى آخر لحظة من لحظات تطوره الفكري.

لقد كتب هيجل نصه هذا، بدافع تعليمي (بيداغوجي)، حيث كان ملزما، عند انتقاله إلى التدريس في جامعة هيدلبرج، باعتماد أحد كتب المختصرات المتداولة؛ لكنه رفض اعتماد هذا النهج، فقرر أن يكتب موجزا يقدم فيه رؤيته الفلسفية في صيغتها النسقية المتكاملة. فكان كتاب الموسوعة. وقد جاء المتن بتركيب خاص موافق لنظرة هيجل إلى ماهية مقرر التدريس الفلسفي الجامعي، من حيث الشمول النسقي للمباحث، وطريقة انتظامها وترتيبها على النحو الذي يحقق تكوين العقلية الفلسفية.

ورغم قيمة كتاب "ظاهريات الروح" – الذي نقله إلى العربية بترجمة جيدة الدكتور ناجي العونلي، وهو الكتاب الذي لن نبالغ في القول بأنه أعظم ما نثره اليراع الهيجلي، فإن متن الموسوعة يفوقه في وساعة مداره البحثي. إذ قدم فيه هيجل رؤيته الفلسفية في نسقيتها المتكاملة؛ فكان بحق موسوعة. لكن لفظ الموسوعة الذي وضعه عنوانا لكتابه، يوحي بمعنى غير مطابق، إذ جرى التقليد في كتابة الموسوعات على أن تكون مرتبة بشكل غير منتظم معرفيا، حيث ترتب اعتباطيا على تتالي حروف الأبجدية، أو على مباحث غير متصلة عضويا. وقد أحس هيجل بالتباس العنونة؛ فنبه إلى أن موسوعته هي إطار نظري مترابط. وبالفعل عندما نَتَقَرَّى بدقة ألفاظ الموسوعة وفقراتها، نجدها نسقا بنائيا، كل لبنة فيه تؤسس لما يتلوها. إنه نسق ضخم، دائر على مدارات ثلاثة، هي: المنطق، وفلسفة الطبيعة، وفلسفة الروح. وهي المدارات التي توجز لنا فكرة وجغرافية النسق الفلسفي الهيجلي في مختلف مراتبه ومقاماته.
#2#
وقد نثر هيجل متن الموسوعة، لكي يتخلص من الخضوع لمقررات غيره. حيث كان النهج المعتمد في تدريس الفلسفة، الذي استقر في الجامعة الألمانية منذ إيمانويل كانط، هو الارتكاز على كتب مقررة تكون مدار المباحثة والمفاكرة بين الأستاذ وطلبته. وقد انتهج كانط هذا المنحى في التدريس؛ لأنه كان توصية وزارية شبه ملزمة، من الوزير فون زيدتس، الذي كان حريصا على إلزام أساتذة الجامعة بأن يبتعدوا عن فعل الإملاء، إذ في أحد توجيهاته يقول: "تقديم محاضرات عن طريق الإملاء ... أمر ينبغي الامتناع عنه". والبديل لهذه الطريقة كان هو اعتماد متن من المتون التي تتميز بخاصية الوجازة والنسقية والترابط في تقديم علم من العلوم أو مبحث من مباحث العلوم، فيكون هو العمدة للأستاذ والطالب على حد سواء، حيث يتعين على الأستاذ تدريس فقرات الكتاب، مع تعقبه بالنقد إن شاء واقتدر على ذلك. وفي هذا السياق أيضا، يقول فون زيدتس في أحد توجيهاته موجها خطابه إلى أساتذة الجامعة: "في استطاعتكم نقد مؤلفي تلك الملخصات كما تشاؤون".

هكذا كان الدرس الفلسفي الجامعي زمن كانط، واستمر كذلك إلى زمن هيجل. غير أن هذا الأخير بمجرد تعيينه مدرسا في جامعة هايدلبرج، لم يقبل أن يأخذ تلك الكتب الجامعية المقررة، حتى ولو من باب نقدها، بل أصر على أن يكتب كتابا خاصا به، فكتب الموسوعة. وهذا الاحتراس من الكتب المقررة في التعليم الفلسفي السائد وقتئذ، نجده لدى هيجل في لحظة باكرة من حياته المهنية كمدرس. إذ منذ كان أستاذا في المدرسة الثانوية، طلب منه صديقه نيثامر بإلحاح أن يكتب كتابا في علم المنطق خاصا بطلاب المدارس؛ فرفض قائلا في رسالة جوابية: "هناك كتب مدرسية كثيرة في المنطق التقليدي، وهي كافية. ومع ذلك فإن هذا الموضوع ليس من الموضوعات التي يمكن أن تظل على ما هي عليه باستمرار. وإن كان أحد لا يستطيع أن يعمل منه شيئا: إنه أشبه بالمتاع الذي تتوارثه الأجيال. أما البديل الذي مست إليه الحاجة فلم يظهر بعد. ومن هنا ظلت القواعد القديمة كلها سارية المفعول. ويمكن كتابتها في صفحتين اثنتين. وليست كل إضافات تفصيلية تجاوز هاتين الصفحتين سوى تدقيقات إسكولائية عقيمة. أما اتساع هذا المنطق فهو يتم من زوايا سيكولوجية تافهة." (هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، ج 1، ص 8).

لكن تكرار توكيدي على وجوب قراءة متن الموسوعة؛ لا يعني أنه نص سهل المأخذ. فرغم القصدية التعليمية التي كانت موجهة لكتابة النص – وخاصة في طبعته الأولى– يبقى متنا مستعصيا، نظرا لوجازة العبارة وكثافة النظرية المحتواة داخل كل فقرة من فقراته. إنه نص يستهدف طالب الفلسفة الجامعي الذي يملك مقدارا من الثقافة الفلسفية، وله سابق تعارف مع ألفاظ وحدود المعجم الفلسفي. وكثافة لغة الموسوعة تعني، في نظري، أن قراءتها ينبغي أن تكون على باقي التآليف الهيجلية، إذ ما هو موجز فيها مفصل في غيرها. ومن ثم تصير الموسوعة خريطة لفهم الإمبراطورية الفلسفية الهيجلية.

الأكثر قراءة