طه عبد الرحمن وخصومته مع ابن رشد

طه عبد الرحمن وخصومته مع ابن رشد
طه عبد الرحمن وخصومته مع ابن رشد

إن سياق تفكير طه عبد الرحمن مرتبط بمآزق التفكير العربي الإسلامي ومآزق التفكير الغربي معا، فهو فكر انطلق من النكسة العربية سنة 1967 م باعترافه هو شخصيا، فهي من دفعته إلى هجر ميوله الأدبية والشعرية، فمباشرة بعد عودته من فرنسا اقتنع بضرورة التسلح بالبحث المنهجي الدقيق قصد تقويم أعطاب الفكر العربي الإسلامي، وهو بذلك يكون قد انخرط في هم شغل بال كل مجايليه المغاربة والمشارقة معا، هذا من جهة ومن جهة أخرى فالرجل وهو المتخصص في المنطق وفلسفة اللغة قد تشرب الثقافة الفلسفية الغربية ووقف عند أهم عيوبها أو بتعبيره آفاتها الكبرى والمتمثلة عنده في الابتعاد عن الإيمان وعن الأخلاق والتي من جراء غيابهما ألحقت بالإنسانية عديدا من الجروح المعنوية.

هكذا يكون طه عبد الرحمن قد اشتغل في أفق واحد لكن باتجاهين متكاملين واحد صوب الذات والثاني صوب الغير. وقد طعم الأمر أكثر توفره على تربية دينية أصيلة (حفظ القرآن والأحاديث النبوية والمتون العلمية ودراسة الفقه والعقيدة...) وتعليم عصري، حيث تخرج من أوروبا وبالضبط في جامعة السوربون. هذا التكوين المزدوج سمح له بأن يجند نفسه كمفكر لرأب الصدع بين ما يسمى الحداثة وما يسمى الأصالة. ناهيك على أن للرجل تجربة صوفية يسميها بالتجربة الروحية يقول إنها أحدثت له منعطفا وانقلابا فكريا في سريرته وفكت قيود فهمه ووسعت مداركه، إذ لازمَ "العارف بالله" الشيخ حمزة صاحب الطريقة القادرية البوتشيشية المشهورة فكان ذلك أكبر درس جعله يفضل العمل على النظر المجرد.

إننا إذا ما نظرنا إلى الباحثين في الشأن الفلسفي المغربي خصوصا (العروي، الجابري، علي أومليل، عبد الكريم الخطيبي، محمد سبيلا، عبد السلام بن عبد العالي...) سنجدهم قد اعتنقوا دون أدنى تردد فلسفة الحداثة وترجموا لها، بل البعض منهم تبنى حتى الفكر المابعد حداثي مروجين لأفكار كل من فوكو ودريدا وليوطار ودولوز... لكن طه عبد الرحمن كان وكأنه تغريدة خارج السرب ليفكر بطريقة مختلفة، سواء في منهجية تعامله مع التراث أو في رفضه مجاراة الحداثة الغربية ويكفي لفهم ذلك أنه عاند ورفض التوجه نحو ابن رشد الذي عول عليه مثلا عابد الجابري رحمه الله وجعله نقطة انطلاق جديدة، فلماذا قرر طه عبد الرحمن ألا يكون رشديا؟

إذا كان الكثير من المفكرين العرب يبجلون ابن رشد ويجعلون منه بؤرة الانطلاق الحقيقية لاستئناف القول الفلسفي، فهو وجه العقلانية الساطع من القرون الوسطى إنه الرمز الذي ينبغي إحياؤه، فهو برأيهم من فصل الحكمة عن الشريعة بل هو من أسهم في فصل الدين عن الدولة... فإن طه عبد الرحمن رفض بالقطع أن يكون رشديا وظل دائم التهجم على الرشدية، وكأنه يلقي على ابن رشد المسؤولية على ضياع الإبداع العربي، يقول طه عبد الرحمن "موقفنا من ابن رشد يعارض على وجه الإطلاق الموقف الذي يتخذه منه عموم الباحثين والمتفلسفة العرب، فضلا عن أساتذتهم من المستشرقين والباحثين الغربيين: مسيحيين أو يهود، فعلى الرغم من تمكن ابن رشد أكثر من أسلافه من فهم مؤلفات أرسطو لما توافر له من الشروح المختلفة والمفصلة... فإننا نرى أنه أخطأ كليا في منطلقاته الفلسفية، فضل الطريق إلى إنشاء فلسفة عربية، وأعاد الفلسفة إلى ما كانت عليه في لباسها اليوناني الأصلي، ماحيا من غير تحسر كل مجهودات أسلافه في ملاءمتها مع مقتضيات المجال التداولي العربي، فكان بحق، فيلسوفا غربيا بلسان عربي، لا فيلسوفا عربيا بعقل عربي، لذلك يكون قد أمات الفلسفة بالنسبة لنا وأحياها بالنسبة لغيرنا".

لقد قدمت قول طه بأكمله لأنه يلخص رأيه في رجل يشيد به معظم المفكرين، والمتأمل في كلام طه يجده قاسيا في حق ابن رشد، فرغم الإشادة به في كونه الشارح الأكبر لأرسطو، فهذا عنده يبقى على الرغم من ذلك مذمة، لأنه ارتمى في حضن اليونان وكبح جهدا كبيرا من الإبداع بدأ مع الغزالي وعلماء الكلام والأصوليين عموما، فطه يعبر بكلمة: أخطأ ابن رشد ومحا جهود أسلافه، ليبين مدى "غضبه مما فعله" ليختم قوله بكون أن مجهود ابن رشد لم يكن في مصلحة الخصوصية العربية والإبداع الفكري الإسلامي بل هو كان يشتغل في أفق غربي محض لذلك يستنتج أن ابن رشد ما هو إلا فيلسوف غربي بلسان عربي، ويكون طه عبد الرحمن بموقفه هذا قد أعاد موقف المستشرق "آرنست رينان" بكتابه الشهير "ابن رشد والرشدية" سنة 1852م والذي عمل على كشف تأثير ابن رشد في الفكر الأرووبي والذي قرر دعوته "العنصرية" القائلة بأن الفلسفة الإسلامية هي ليست سوى فلسفة اليونان مكتوبة بحروف عربية. فإذا كان آرنست رينان إبان القرن التاسع عشر وهو ينتمي إلى الحضارة الغربية المتمركزة حول ذاتها آنذاك، لا يريد أن يرى أي أصالة للفكر العربي الإسلامي، فماذا يمكن القول عن طه عبدالرحمن الذي ينتمي إلى الذات، وليس إلى الآخر، فهل هو يجلد الذات بعد تمجيدها من الذات نفسها؟
#2#
يركز طه عبد الرحمن في حجته ضد ابن رشد الذي يعتبره كما قلنا إنه المسؤول عن تفويت الفرصة على الفكر العربي في الإبداع في كونه قد اعتقد أن الفلسفة جملة من الأفكار الكلية وهي الفكرة التي يرفضها قطعا طه عبد الرحمن إذ يرى أن التفكير الفلسفي يكتسب طابعه بل طبيعته من الخصائص اللغوية التي تختلف باختلاف اللغات، لذا فإن التفلسف من حق الألسن جميعا ولهذا نجده يطالب بحق الاختلاف والإبداع الفلسفي العربي وفق القالب العربي.

إن ابن رشد وإن كتب باللغة العربية فهو بحسب طه عبد الرحمن غريب عن التداول العربي الإسلامي، قريب من العقل الغربي ومن ثم فهو ليس بمبدع بل هو مقلد، ومادام طه عبد الرحمن يصنف نفسه ضمن من يكره التقليد، فوجب إذن التخلي عن ابن رشد الذي جعل منه البعض أسطورة من أساطير الأولين، فهو يعبر عن خصوصية الأمة الغربية وليس عن خصوصيتنا، والدليل على ذلك هو ما حدث في التاريخ اللاتيني بعد موت ابن رشد مباشرة، حيث التقطه الغرب وجعلوه موجها لهم وترجموه واستغلوا فكرة القول بالحقيقتين الدينية والفلسفية الرشدية للوقوف في وجه الحقيقة الواحدة التي تدعيها الكنيسة، كما أن الانتساب إليه كان القصد منه هو بث روح العلمانية (الدهرية) التي تشكل خصوصية غربية، يرفضها طه بقوة.

نخلص إلى أن طه عبد الرحمن قد جعل من خصومته لابن رشد دليلا على تميزه الفكري وفرادته، لكن يبقى توجهه هذا فيه نقاش هائل، إذ يمكن أن نطرح على طه السؤال الآتي: هل من الجائز محاسبة مفكر في زمن غابر وإلقاء المسؤولية عليه كاملة؟ وهل حقا تحت دعوى التداول العربي الإسلامي نطرد فيلسوفا من الانتماء إلى الحضارة العربية ونجعل منه رجلا غريبا ومجرد ناقل ومقلد؟ أليست أطروحة طه عبد الرحمن مشحونة بالطابع السجالي والأيديولوجي الذي لم يتملص منه قط، نظرا لخصومته المعروفة والمعلنة لمحمد الجابري الذي قام بوهب جل وقته لإحياء عقلانية ابن رشد وجعلها المرتكز لاستئناف القول الفلسفي العربي؟ أليس المشهد الفكري العربي الذي نختصره في قمتين هما: عابد الجابري باعتباره "رشدي جديد"، وطه عبد الرحمن باعتباره "غزالي جديد"، يدور في حلقة مفرغة ويعيد نفسه كل مرة؟ ألم يحن الأوان بعد لوضع ابن رشد في زمانه وفي سياقه وفي دوره الحقيقي في تحريك الفكر البشري عامة؟ ألا يكفي عزل أنفسنا عن الدار العالمية للفكر؟

الأكثر قراءة